في هذه الحلقة من النقاش الدستوري يتحدث عبد السلام بلاجي عن أسباب تأخر الحركة الإسلامية في رفع المطالب الدستورية كأولوية، مرجعا ذلك بالأساس إلى تأخر تأسيسها إلى بداية السبعينيات. ونبه بلاجي بخصوص مطلب الملكية البرلمانية إلى أن المطلب المرفوع كان هو الملكية الدستورية المقيدة، بعد التراجع الذي عرفه دستور 1970 بتراجعه عن مكاسب دستور 1962، أصبحت مطالب المعارضة متمثلة في الكتلة الوطنية متجسدة أساسا في الرجوع إلى هذه المكتسبات في ما يتعلق بفصل السلطات، واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين تم تقليصهما. وبخصوص الحراك الذي رافق دستور 2011 قال بلاجي إن لشباب 20 فبراير الفضل في تدشينه وفتح النقاش حوله وبعثه من تحت الرماد والركام، بعدما خيم الجمود والتراجع على المشهد السياسي والحزبي بفعل حزب «السلطة» الذي هيمن على الحياة السياسية ورجع بالمغرب إلى الوراء، مبشرا بالنماذج الأكثر استبدادا في العالم العربي: النموذج التونسي والمصري. ● كيف تقيمون تطور الجدل السياسي حول الدساتير؟ ●● في بداية الاستقلال وقبيل وأثناء إعداد دستور 1962 كان مطلب إقرار الدستور مقتصرا أساسا على الأحزاب السياسية، وخصوصا الأحزاب المعارضة، كما كان لرابطة علماء المغرب برئاسة الأستاذ عبد الله كنون آراء ومقترحات دستورية متقدمة، ثم توسعت القاعدة التي تطالب بإقرار دستور ديمقراطي تدريجيا لتشمل المنظمات النقابية حتى شملت أخيرا الحركات الإسلامية ومنظمات المجتمع المدني وجزءا مهما من الشارع متمثلا في الشباب في سنة 2011، وقد كان النقاش حول المسألة الدستورية في بداية الاستقلال قويا سواء ما تعلق بالمنهج أو بالمضمون. ● لنبدأ بالمنهج كيف تعاطت القوى السياسية معه؟ ●● من حيث المنهج كانت المعارضة تطالب بلجنة تأسيسية منتخبة من الشعب تقوم بإعداد الدستور، وخاصة حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي، وحزب الشورى والاستقلال بقيادة محمد بلحسن الوزاني، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة الأستاذ عبد الله إبراهيم وزعامة المهدي بن بركة. لكن حزب الاستقلال تخلى عن هذا المطلب تحت ضغط الواقع وإيثارا للمصلحة العامة، وانخرط في حملة التصويت بنعم للدستور، بينما تضاعفت معارضة الاتحاد الوطني لأسلوب الدستور الممنوح. ● وكيف تعاطوا مع المضمون؟ ●● من حيث المضمون، كان المطلب المرفوع هو الملكية الدستورية المقيدة، ولم يرفع مطلب الملكية البرلمانية إلا لماما، وبعد التراجع الذي عرفه دستور 1970 عن مكاسب دستور 1962 أصبحت مطالب المعارضة متمثلة في الكتلة الوطنية (مكونة من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) متجسدة أساسا في الرجوع إلى هذه المكتسبات في ما يتعلق بفصل السلطات، واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين تم تقليصهما، أما الملكية فلم تكن موضع أية مطالب حزبية. بينما حل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في ظل قيادات يسارية جذرية منذ أواسط الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات محل المعارضة السابقة مستمرا من حيث المنهج في رفض الدستور الممنوح، ومطالبا من حيث المضمون بحلول ثورية تتجاوز سقف الملكية البرلمانية، أما الحركة الإسلامية فقد تأخرت في رفع المطالب الدستورية وذلك راجع بالأساس إلى تأخر تأسيسها إلى بداية السبعينيات، وإلى أن مطالبها في البداية كانت مطالب عامة تتعلق بتحكيم الشريعة الإسلامية، ويمكن اعتبار هذا المطلب في حد ذاته ذا طبيعة دستورية، إلا أن رابطة علماء المغرب التي أعتبرها شخصيا مشروع حركة إسلامية نخبوية كانت لها منذ تأسست في مطلع الستينيات تصورات ومطالب دستورية واضحة، ولم تبرز بواكير مطالب دستورية لرموز الحركة الإسلامية إلا في مطلع التسعينيات عل صفحات جريدة الصحوة ساهمت شخصيا والأستاذ مصطفى الرميد في كتابتها، أما الآن فقد انخرطت حركة التوحيد والإصلاح في مسار الإصلاح الدستوري، بينما ظلت حركة العدل والإحسان والحركة من أجل الأمة في رفض الدستور الممنوح أو كما سماه بعضهم «ّدستور العبيد» إلى جانب شباب 20 فبراير وأحزاب يسارية ومنظمات حقوقية أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن مطلب الملكية البرلمانية حيث يسود الملك ولا يحكم، قد اتسع عدد القائلين به مؤخرا لكن مذكرات الأحزاب السياسية ظلت محتشمة ومترددة في ما يخص هذا المطلب، وإن كنت شخصيا لا أرى لهذا المطلب وجاهة خصوصا من الزاوي الشرعية: حيث لا يوجد في الفقه السياسي الإسلامي مكان لسلطة رئاسية رمزية خليفة أو سلطان أو ملك أو رئيس بدون سلطة بل ترتبط ممارسة المسئولية بالمحاسبة التي تصل إلى المحاكمة أو العزل في حالتي الخطأ أو التقصير، وأعتقد أن هذا هو التوجه الذي ينبغي التركيز عليه والدفاع عنه شرعيا وسياسيا. ● شهد المغرب نقاشا دستوريا قبيل المصادقة على الدستور الجديد كيف كان أداءه ؟ ●● النقاش والحوار الذي سبق الدستور الحالي كان جيدا وشاملا وصحيا على العموم: فقد كان لشباب 20 فبراير الفضل في تدشين وفتح هذا النقاش وبعثه من تحت الرماد والركام، بعدما خيم الجمود والتراجع على المشهد السياسي والحزبي بفعل حزب «السلطة» الذي هيمن على الحياة السياسية ورجع بالمغرب إلى الوراء، مبشرا بالنماذج الأكثر استبدادا في العالم العربي: النموذج التونسي والمصري، ويجب الاعتراف للشباب بفضل إنقاذ المغرب من هذا الكابوس دون أن ننسى دور حزب العدالة والتنمية وقيادته الذي بقي إلى جانب قوات سياسية وإسلامية ومدنية أخرى رائدا في رفع شعار الرفض لهذا المشروع الظلامي الاستبدادي. كما أن الخطاب الملكي ليوم 9 مارس كان مهما جدا في إثراء النقاش الدستوري حيث أعطى لكل المعنيين إشارات جيدة مفادها أن الملك مستعد للذهاب في الإصلاح الدستوري إلى أبعد الحدود، وقد كانت روح الخطاب الملكي واستمرار ضغط واحتجاج وخروج شباب 20 فبراير بالإضافة إلى النقاش الصريح الذي عرفته الصحافة وشوش عليه باعتقال الصحافي المقتدر رشيد نينني ومحاكمته لقد كان كل ذلك وغيره من العوامل المصاحبة كفيلا بأن ينتج وثيقة دستورية رائدة ومتقدمة أكثر من الوثيقة الحالية، ولكن تردد مذكرات الأحزاب السياسية وخصوصا الرئيسية منها، وضمنها حزب العدالة والتنمية، وضغوط اللوبيات المخزنية، وتخوفات ولربما ضغوط جهات «خارجية» على رأسها الملكيات والإمارات العربية، كل ذلك جعل نص الدستور الحالي رغم كل إنجازاته المهمة قاصرا عن المطالب الشعبية بل حتى عن مضمون الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011، ومع ذلك فإن النقاش سواء داخل اللجنة المكلفة بصياغة الدستور أو لجنة التتبع أو في الندوات العديدة والكتابات الصحافية أو في وسائل الإعلام المختلفة كان شافيا وكافيا. واستمر حوالي ستة أشهر. لكن الملاحظ أن طريقة «الإفراج» عن مسودة الدستور، وقصر المدة الفاصلة بين تاريخ الإعلان عن مشروع الدستور وتاريخ التصويت عليه، لم يسمح للنقاش أن يبلغ مداه للمسودة والمشروع، ويبدو أن ذلك كان ممنهجا ومقصودا، ففي كل المنعطفات التاريخية الحاسمة للمغرب تتدخل جهات وأيادي خفية لمنع المغرب من تقديم إنجاز تاريخي رائد، ولكن إذا أخذنا بمضمون المثل السائر: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، فيمكن القول بأن النقاش كان جيدا، وكان بإمكانه أن يسفر عن وثيقة دستورية رائدة، إلا أنه أسفر عن دستور مقبول وإن كان دون ما هو مأمول، وهذا ما يجعل ورش الإصلاح والنقاش الدستوري مفتوحا للوصول إلى ما هو أرقى وأحسن.