في هذه الحلقة الثانية من نقاشنا لمائة عام من الإصلاحات الدستورية في المغرب يتحدث الدكتور عبد السلام بلاجي عن دور العلماء في تحديث الدولة وسعيهم إلى نهضتها مؤكدا أن هذا الأمر ليس غريبا على فئة تعتبر ضمير الأمة. أما عن تطور الدساتير المغربية يؤكد الأستاذ المتخصص في القانون الدستوري، أن دستور 1972 جاء في مرحلة انسداد سياسي كبير حيث تم التراجع عن عدد من المكتسبات التي جاء بها دستور 1962، وهو الأمر الذي أدخل المغرب إلى مرحلة المطلق وذلك بالتنصيص على قداسة الملك. كما ناقش عددا من القضايا المرتبطة بالسياقات الوطنية والإقليمية والدولية والدوافع التي جاءت هذه الإصلاحات نتيجة لها. ● في نظركم ما هي دوافع التعديلات الدستورية السابقة؟ ●● يمكننا الحديث عن عدة دوافع ساهمت بشكل مباشر في التعديلات الدستورية التي شهدها المغرب في المائة سنة الماضية ولنبدأ بدستور 1908 والذي جاء من طرف العلماء وعلى رأسهم الشيخ عبد الكريم مراد، فنجد أن الهدف منه هو تحديث ممارسة السلطة في بلد إسلامي كالمغرب، بعدما تم إدخال هذه الآليات في عدد من الدول الإسلامية المشرقية كتركيا ومصر وتونس وغيرها... وبالتالي كان هدف العلماء تحديث الدولة من أجل نهضتها، وليس غريبا أن يكون العلماء هم من اتخذوا هذه المبادرة لأنهم ضمير الأمة وكان هدفهم إدخالها المغرب إلى العصر الحاضر. أما فيما يخص دستور 1962 فقد سبق هذا الدستور إرهاصات عدة من حيث المطالب، التي تقدم بها رجال الحركة الوطنية في وثيقة 1948، والتي طالبوا من خلالها بضرورة بناء دولة ديمقراطية حديثة، كما طالبون بملكية دستورية إلا أن تدخل الملك الخامس أرجأ إدخال هذا المطلب في صلب هذه الوثيقة إلى ما بعد الاستقلال، وبالفعل واستمرارا على هذا المنوال كان الملك محمد الخامس في مغرب ما بعد الاستعمار يهدف إلى توفير دستور مغربي على أساس أن تكون الملكية دستورية، ولهذا الغرض أنشأ هيئة دستورية إلا أنها شهدت نزاعات داخلية بسبب ترؤس علال الفاسي لها وانسحاب بعض الزعماء كمحمد بلحسن الوزاني والمحجوبي أحرضان وهو ما جعلها تفشل في مهمتها. ● هل يمكننا أن نتحدث عن دافع مباشر وراء هذا التعديل؟ ●● الدافع كان مطلب الأحزاب الوطنية لكنه جاء بعد وفاة محمد الخامس حيث أوكل الحسن الثاني لأستاذ فرنسي مهمة إعداد دستور 1992. ● وماذا عن دستوري 1970 و1972 الذين أتيا في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب اتسمت بانقلابين؟ ●● هذا صحيح فينبغي أن لا ننسى أن دستوري 70 و72 أتيا في مرحلة تكاد تكون مرحلة حكم عسكري، لأن الحياة السياسية كانت مشلولة والحياة البرلمانية متوقفة، فهذا الانسداد السياسي أنتج لنا محاولتين انقلابيتين في مدة سنتين. فالدستور الأول جاء في مرحلة انسداد سياسي كبير حيث تم التراجع عن عدد من المكتسبات التي جاء بها دستور 1962، إضافة إلى هذا تم التنصيص على قداسة الملك بمعنى أننا دخلنا مع هذا الدستور إلى مرحلة المطلق. لكن وبعد المحاولتين الانقلابيتين، أراد الملك الحسن الثاني تصحيح المسار الذي كانت تسير به الدولة، وبالتالي التخلص من ديكتاتورية العسكر التي استسلم لها، فجاء دستور 1972 لإصلاح هذا الواقع لكن الإصلاح المنشود لم يحدث، ويمكننا أن نقول إذن أن هذا الدستور جاء بدوافع الانقلابات العسكرية. ● هل استمر هذا الوضع طويلا؟ ●● بالفعل استمر وإلا حدود سنة 1992 حيث شهد المغرب في الفترة بين أخر تعديل دستوري سنة 1972 وتعديل سنة 1992، أحداث دامية في الثمانيات وكذا في بداية التسعينات، وشهدنا مع هذه الإحداث تقديم أول ملتمس رقابة بمجلس النواب من طرف أحزاب الكتلة، وتلته مذكرة للإصلاح الدستوري. ● هذا عن الوضع الداخلي ماذا عن الوضع الخارجي وكيف أثر هذا الأخير من أجل التسريع بإصلاحات 1992؟ ●● الوضع الخارجي وبالخصوص مع الأحداث التي تلت سقوط الإتحاد السوفيتي أو ما يمكننا أن نسميه بالمد الديمقراطي في أوربا أثر بشكل كبير على الوضع المغربي الداخلي حيث شهد المغرب في هذه المرحلة سقوط حوالي 400 قتيل نتيجة للاحتجاجات التي شهدتها عدد من المدن المغربية بفعل التأثر بالمد الديمقراطي الأوربي. بعد هذا التاريخ شهدنا نوعا من الانفتاح السياسي في المغرب بداية من تأسيس المجلس الاستشاري الملكي لحقوق الإنسان وإنشاء وزارة خاصة بحقوق الإنسان، وبعد هذا وخصوصا في 1994 بدأ الحديث عن التناوب التوافقي، وهو ما أنتج لنا مطالب الكتلة بتعديل دستوري، جسده بالفعل دستور 1996 الذي أعطى عددا من الصلاحيات للوزير الأول والحكومة، إضافة إلى الثنائية البرلمانية بإنشاء مجلس المستشارين، لنصل إلى حكومة التناوب التوافقي مع عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998. لكن التعديلات الجوهرية التي جاءت هذه السنة مع ربيع الديمقراطية في العالم العربي، والحراك الشبابي في المغرب مع حركة 20 فبراير، التي طالبت بملكية برلمانية، وتحت هذه الضغوط التي لا يمكننا أن ننكرها جاء خطاب 9 مارس الذي أسس للدستور الحالي. ● هل يمكن أن نعتبر دستوري 1992 و 2011 يشكلان استثناءا في تاريخ التعديلات الدستورية على اعتبار السياقات الإقليمية والدولية التي أتيا فيهما؟ ●● بالفعل فللسياق الخارجي دور بارز في بلورة حركة المطالبة الدستورية والسياسية لهذه التعديلات التي تحدثت عنها لكن هناك فرق شاسع في الإطار الزمني بين تعديلات 1992 وسنة 2011 ففي الإطار الأول، نجد أن أوربا سعت لإسقاط المعسكر الشرقي بكل ما أتيت من قوة عن طريق مساعدة المجاهدين الأفغان بالمال والعتاد وغيرها، وأصبحت معه الأنظمة العربية كذلك بتنسيق مع الولاياتالمتحدة تنادي كلها بالجهاد، حيث تم تسفير الآلاف من المجاهدين في كل المناطق العربية والإسلامية بما فيها المغرب لمحاربة هذا المعسكر، ولما سقط الاتحاد السوفيتي بجميع الوسائل بما فيها تدخل الكنيسة، انعكس هذا الأمر على الدول الأوربية التي عاشت ربيعها الديمقراطي لكن الدول العربية استثنيت من ذلك. ● لماذا هذا الاستثناء في نظركم؟ يمكننا أن نسجل في هذه المرحلة أن أمريكا وأوربا لا ترغبان في رؤية أنظمة ديمقراطية في هذه المنطقة وذلك للحفاظ على مصالحهما الحيوية بها وكذا مصالح الكيان الصهيوني. فتم خذلان الحركات السياسية المطالبة بالإصلاح السياسي، ومن ضمنه المغرب والذي عاش حراكا حقيقيا سنة 1990 وصل حد سفك الدماء للمطالبة بإصلاحات إلا أننا رأينا الصمت المريب للغرب في تعاطيه مع هذا الحراك آنذاك. ● بهذا هل يمكننا أن نتحدث عن الفرق بين الإطارين الزمنيين لهذه الإصلاحات؟ ●● هذا مؤكد فالفرق بين الإطارين الزمني واضح فهذه اللحظة التي نعيشها اليوم والتي شهدت هذا الحراك تجاوز الأحزاب التقليدية المنخرطة في العمل السياسي والتي تشتغل ضمن خارطة لها حدود، ولا يمكنها أن تتجاوزها، وكما رأينا في تونس ومصر بمجرد مواجهة المطالب الاجتماعية بالعنف وتعنت الدولة في تعاطيها مع مطالب الشباب الغاضب جعل المتظاهرون يطالبون بالتغيير الجذري وهو ما لا يمكن لهذه الأحزاب أن تنخرط فيه على اعتبار ما ذكرناه سالفا. بالنسبة للمغرب كانت هناك مطالب لشباب حركة 20 فبراير للمطالبة بإصلاح حقيقية، هذه المبادرة التي جعلت سقف مطالبها لا يتجاوز الإصلاحات قوبلت بالإيجاب بمبادرة ملكية سريعة وأعتبرها شجاعة حيث أخذت على عاتقها إصلاح منفتح على كل المطالب، لكن للأسف الدستور جاء دون المطالب التي رفعت في الشارع، بل دون الخطوط العريضة لخطاب 9 مارس.