❶ قبل أيام وجهت إلىّ قارئة هي الأستاذة سمية أمين السؤال التالي عبر البريد الإلكتروني: متى تنتهي الثورة؟ وذكرتني بما سبق أن أشرت إليه عن الجزائرية، التي عاشت أيام الاستعمار الفرنسي، وعانت من الأوضاع التي استجدت بعد الاستقلال، فقالت لمن حولها إن الاحتلال استمر 130 عاما ورحل، متى إذن ينتهي هذا الاستقلال؟ سؤال القارئة ليس استثنائيا، ذلك أن التعبير عن مشاعر القلق والضيق مما يجري في مصر بات يتردد على ألسنة كثيرين. ولم يعد الاستياء مقصورا على ما يصدر عمن نسميهم بالفلول أو البلطجية فحسب، ولكنه أصاب أيضا بعض الممارسات المنسوبة إلى «الثوار» أنفسهم الذين تعددت أصواتهم وائتلافاتهم، وتحولوا إلى قوة ضغط اختلط عند بعضها الصالح العام بالخاص، حتى ذكرت صحيفة «الشروق» (يوم 16/7) في تقرير لها عن أجواء التعديل الوزاري أن «مشكلة شرف (رئيس الوزراء) لم تعد إرضاء الشعب، ولكن في كيفية إرضاء الائتلافات». ما يجري في مصر يسوغ لنا أن نقول إن «التجاذب» بات السمة العامة للربيع المذكور حتى الآن على الأقل. تجاذب بين الثوار من ناحية وبين المجلس العسكري والحكومة من ناحية ثانية. وتجاذب بين الائتلافات بعضها مع بعض، وتجاذب بين الأحزاب القديمة والجديدة، وبين الإسلاميين والعلمانيين، وبين أدوات وأجهزة النظام القديم، ونظائرها في النظام الجديد وبين الراغبين في تصفية حسابات الماضي والمتطلعين إلى بناء المستقبل. ورغم أننا تجاوزنا مرحلة التجاذب بين أنصار الدستور أولا ودعاة الانتخابات أولا، إلا أن ذلك لم يهدئ تماما من أجواء المعسكرين المشتبكين. الوضع في ساحات انتفاضة الشعب العربي ليس أفضل كثيرا، وربما كان أسوأ. في تونس لا يزال التجاذب على أشده خصوصا بين العلمانيين والإسلاميين. في ليبيا يشن العقيد القذافي حربا شرسة ضد معارضيه، الأمر الذي يهدد بانقسام البلد. في اليمن يصر الرئيس على عبدالله صالح على التمسك بمنصبه حتى آخر رمق، وفي سبيل ذلك فإنه أبدى استعدادا لجر البلاد إلى حرب أهلية، ولا يبالي باحتمالات انفصال الجنوب عن الشمال. في سوريا تتواصل عمليات السحق والقتل التي يباشرها الجيش والشبيحة، في حين تعاني قيادات المعارضة من الانقسام والتجاذب. في البحرين توتر بين السنة والشيعة. في العراق تلويح بانفصال السنة في إقليم مستقل شأنهم في ذلك شأن الأكراد في الشمال وتصدع في رئاسة الدولة. في السودان نجحت عملية تمزيق الوطن الواحد، وتم انفصال الجنوب عن الشمال. في المغرب والجزائر والأردن اضطرابات وغليان محوره الإصلاح السياسي. ولبنان مرشح للانفجار في أي لحظة بسبب الإصرار على محاصرة حزب الله والتآمر لتوريط بعض أعضائه في قضية مقتل الرئيس الحريري. أما في فلسطين، فقد انتهزت إسرائيل فرصة انشغال العالم العربي بأحداثه الداخلية وتراجع الاهتمام العام بالقضية، ومارست التنكيل بالشعب الفلسطيني عبر استمرار الغارات على غزة، وإحكام الحصار حولها ومنع وإفشال حملات التضامن الدولي مع الفلسطينيين عبر البحر والبر، كما نجحت حتى الآن في إفشال المصالحة الفلسطينية وإبقاء الوضع في معبر رفح كما كان عليه قبل الثورة، وكأن تغييرا لم يحدث في مصر. ❷ أين الربيع العربي في هذه الخريطة؟ تختلف الإجابة باختلاف زاوية رؤية المشهد، فإذا نظرت إلى الخريطة من زاوية الأنظمة الحاكمة، فستجد أن نظامين عربيين فقط تغيرا، في تونس ومصر، لكنهما يعانيان من التجاذب، مما جعل وجهه البديل عنهما لم تتحدد بعد. أما في بقية الأقطار العربية فالقديم على حاله، بعضه يقاتل ويقتل دفاعا عن استمراره، وبعضه يحتال بطُعم الإصلاحات أو بتقديم الرشاوى للناس لكي يضمن الاستمرار، والبعض الثالث يدفن رأسه في الرمال مدعيا أن له خصوصية تحصنه ضد الإصابة بالعدوى من الآخرين.قراءة الخريطة من زاوية النخب الطافية على سطح الساحة العربية فإن الشعور بالإحباط لن يفارقنا. لأن السمة الغالبة على تلك النخب أنها لا تزال أسيرة حساباتها الخاصة، التي قدمتها على المصلحة الوطنية. وصراعات النخب في مصر وتونس بوجه أخص تشهد بذلك. ذلك أن الاشتباك في البلدين حول هوية النظام الجديد، وهل تكون علمانية أو إسلامية؟ شغل الجميع عن ديمقراطية النظام المنشود. إذا نظرنا إلى الصورة من زاوية المصالح الغربية فستلاحظ أنها مؤمنة ومحصنة تماما حتى الآن على الأقل. بل وستلاحظ أن بعض هذه الدول لم يتردد في تقديم العون إلى الانتفاضات الشعبية بحجة «دعم الديمقراطية»، وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد أعلنت عن ذلك رسميا، وخصصت 150 مليون دولار لأجل ذلك، فإن عدة دول أوروبية فعلت نفس الشيء بغير إعلان. أما العلاقات مع إسرائيل فالتطبيع الذي كان لا يزال قائما لم يطرأ عليه أي تغيير. وحدها الشعوب التي يمكن أن تقول إن بشائر الربيع حلت في أوساطها. إذ ارتفع صوتها بالاحتجاج والغضب، وخرجت إلى الشوارع والميادين عزلاء وعارية الصدور، معلنة عن رفضها للذل والاستبداد والفساد الذي لا يقل عن ذلك أهمية أن تلك الشعوب بدت مستعدة لدفع ثمن استرداد حريتها وكبريائها ودفعت ذلك الثمن من دمائها. ولم تكن تلك هبة عارضة انطلقت ثم هدأت، ولكنها بدت غضبة مسكونة بالإصرار والعناد، آي ذلك أن تلك الجماهير لا تزال صامدة منذ أشهر في اليمن وليبيا ومنذ أسابيع في سوريا. إذا صح ذلك التحليل فهو يعني أن التحدي الحقيقي الذي يواجه حلول الربيع هو كيف يمكن توفير الظروف والآليات التي تمكن الشعوب العربية من أن تصبح شريكة في صناعة مصيرها، بحيث تتحول من مفعول به إلى فاعل ومن قوة ضغط إلى صاحبة قرار. ❸ من الأمور الجديرة بالملاحظة في هذا السياق أنه في حين تستيقظ الشعوب العربية وتتطلع لاسترداد كرامتها وحقوقها، فإن السياسات الغربية تشهد تحولات إستراتيجية مهمة تتبدى في الموقفين الأمريكي والأوروبي. ذلك أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها الغربيين يسحبون قواتهم ببطء من الشرق الأوسط ووسط آسيا، كما يتم بصورة تدريجية سحب المظلة الأمنية الغربية التي طالما ميزت المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. وهي العملية التي بدأت في العراق وأفغانستان وباكستان، وثمة اتفاق بين الباحثين الاستراتيجيين على أن وجود القواعد الأمريكية في الخليج ذاته غدا أمر استثنائي لن يدوم طويلا. في الوقت ذاته تبدو الولاياتالمتحدة منهكة بسبب الحروب ومفلسة فمجموع ديونها يبلغ 14500 بليون دولار، أي ما يوازي 100 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي، ويبدو أن إنفاقها 900 بليون دولار على العمليات الدفاعية والعسكرية هذه السنة لا يمكن أن يدوم. فهي تنسحب من العالم العربي والإسلامي حتى تركز طاقاتها على الصين التي تعد منافستها العالمية. ويدل إخفاق الرئيس باراك أوباما الواضح في فرض حل الدولتين على إسرائيل على الضغط الأمريكي ويذكر بمدى سيطرة الناشطين الموالين لإسرائيل على السياسة الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط، ويعتبر اعتماد العرب على الولاياتالمتحدة من أجل مشكلة فلسطين خطأ كبيرا. منذ عشرين سنة أرسلت الولاياتالمتحدة 500 ألف جندي من أجل إخراج صدام حسين من الكويت. إلا أن تلك الأيام ولت. فقد أدت الحربان في العراق وأفغانستان اللتان أخفقت فيها الولاياتالمتحدة إلى حد بعيد وحيث تم ارتكاب جرائم كبيرة، إلى تراجع الأمريكيين عن أي رغبة في الدخول في مغامرات في الشرق الأوسط، وهذا يعني أن الولاياتالمتحدة لن تهاجم إيران حتى لو بلغت العتبة النووية إلا أنها لن تسمح أيضا لإسرائيل بجرها إلى حرب ضد طهران، كما فعلت إسرائيل وأصدقاؤها الأمريكيون عام 2003 من أجل شن حرب على بغداد.. فقد تم تعلم الدرس من ذلك. هذه الشهادة ليست لي، وإن كنت أتفق معها، لكنها للكاتب البريطاني باتريك سيل المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، نشرتها له صحيفة الحياة اللندنية في 8/7 الحالي، مقال له تحت عنوان التحديات التي تواجه العرب. ❶ الربيع العربي حقيقة إذن وليس وهما أو حملا كاذبا. لكنها حقيقة محاصرة في محيط الشعوب، ولا سبيل إلى تحويلها من مشاعر فياضة وأمنيات إلى واقع يمشي على الأرض إلاَ من خلال ثلاثة عناصر هي: إرادة حرة وديمقراطية حقيقية، ومشروع نهضة يهتدى به ويستهدفه الجميع، لكن الأمر في العالم العربي ليس سهلا على الإطلاق. وهو بالنسبة لمصر بالذات مليء بالألغام والتحديات، سأقول لك لماذا؟ذلك أن العالم العربي اجتمعت له خصوصيات تميزه عن أي مكان آخر في العالم. بالتالي فهو مختلف في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية أو أي تجمع بشري آخر، فهو في النظر الغربي بقعة تلازم فيها الإسلام مع النفط جنبا إلى جنب مع إسرائيل. إذ الإسلام تنشر في أقطار عدة وكذلك النفط لكن إسرائيل مغروسة في مكان واحد هو قلب العالم العربي. الإسلام يخيف الغربيين والنفط يغريهم وإسرائيل تحمي مصالحهم كما أنها تمسك بخناق العرب. ولهذه الأسباب فإن الفرار الاستراتيجي الغربي المستمر منذ وقعت اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916 (بعد الحرب العالمية الأولى) يقضي بتفتيت العالم العربي وإبقائه تحت الوصاية الغربية المباشرة وغير المباشرة. ربيع العرب بالمواصفات التي ذكرتها ضار بالمصالح الغربية، ذلك أن ثمة تعارضا بنيويا بين استقلال إرادة الأمة العربية وإقامة ديمقراطية حقيقية فيها وبين التطلعات والاستراتيجيات الغربية. لذلك لن أمل من التنبيه إلى أن تلك الاستراتيجيات لا تريد للعالم العربي سوى ديمقراطية منقوصة تفعل فعلها في الداخل في حين تظل المصالح الغربية تحت الخط الأحمر ينبغي ألا يمس. لأن مصر هي الدولة المحورية في العالم العربي، إذا صحت صح ذلك العالم والعكس صحيح، فإن تلك الإستراتيجية تنطبق عليها بوجه أخص وبدرجة أكبر بكثير من أي قطر عربي آخر، لذلك لم تخطئ مجلة «إيكونوميست» حين قالت في عددها الأخير (في 15/7) إن مصر هي «بوصلة» العرب، وقد آثار انتباهي في الدراسة التي أعدتها حول ثورات العالم العربي أنها وضعت ثلاثة سيناريوهات للمستقبل. الأول نسبته 60٪ ويرشح للمستقبل حصادا ديمقراطيا هزيلا يحل محل الثورتين المصرية والتونسية. الثاني نسبته 20٪ ويطرح احتمال عودة الديكتاتورية، أما الثالث فهو يطرح احتمال إقامة ديمقراطية حقيقية ونسبة حدوثه 20٪.هذه النتيجة لا تختلف عما قلته من قبل عن حرص الدول الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة على إقامة ديمقراطية منقوصة في مصر، وهو الاحتمال الذي رجحته الإيكونوميست. لكن ذلك الاحتمال لا ينبغي التعامل معه بحسبانه قدرا مكتوبا لا مفر منه، وإنما تتعين قراءته باعتباره تحديا تفرضه الإرادة الغربية. وهو في الوقت ذاته اختبار لمدى استقلال الإرادة العربية عموما والمصرية بوجه أخص. إن ربيع العرب ينتظر مصر. ومصر تنتظر همة وشجاعة أبنائها الشرفاء الذين نجحوا في إسقاط فرعون مصر، وليس كثيرا عليهم أن يواجهوا تحدي فراعين العالم، الذين قرروا أن تقزيم مصر شرط لضمان مصالحهم في المنطقة، والنجاح الأول تتويج للجهاد الأصغر، أما معركة الدفاع عن استقلال الإرادة فهي الجهاد الأكبر الذي به يكتمل الربيع.