ثمة مؤشرات مقلقة مفادها أن السلطوية المتحكمة، بعد "نجاح" الاستفتاء، بدأت تتصرف بمنطق المثل الشعبي "قطع الواد وانشفو رجليه". وهذا المثل الشعبي البليغ يساق عادة لتذكير الشخص عديم الوفاء والالتزام، حيث يكون له سلوك قد يذهب به حد الاستجداء في "الواد"، لكنه بمجرد ما "ينشفو رجليه" ينقلب على كل شيء. قبل الاستفتاء كانت كل الرسائل الرسمية تفيد بأننا سندخل بالدستور الجديد عهدا يقطع مع كل الممارسات السابقة في الانتخابات. لكن لما أيقنت السلطوية بأن "نعم" ستكتسح الصناديق عادت "حليمة" إلى تحكمها القديم، كما يقول المثل المغربي، حتى قبل أن تبدأ عملية التصويت على الدستور! كانت الداخلية، وهي تسعى إلى انتزاع توافق مع الأحزاب لتمرير الدستور، تبشر "بالخير" الجميع، وكان منطق "الاستجداء" الذي يفرضه الوقوف وسط " الواد"، يقضي بأن تصرح أحيان وتلمح أحايين أخرى بأن كل المطالب الديمقراطية والمعقولة ستتحقق، ولكن بعد الاستفتاء! لذلك تصرفت الأحزاب، التي أثارت ضرورة إسقاط آليات الإفساد الانتخابي الرسمية، ب"ليونة" سوف تؤدي ثمنها بعد "قطع الواد" مباشرة. وكانت تلك الأحزاب، التي كان منطق المصلحة العامة هو ما يحكمها، قد طالبت باعتماد البطاقة الوطنية في التصويت ومراجعة اللوائح الانتخابية، وإعادة النظر في الإدارة الترابية بما يوفر النزاهة والشفافية، وتفعيل اللجنة الوطنية لتتبع الانتخابات كمشرف على الانتخابات مستقل عن الإدارة، وإعداد قوانين انتخابية تضمن نزاهة الانتخابات. ومن باب جس النبض وإعداد الأحزاب لقبول منطق السلطوية التحكمي، كان الوزير الأول سباقا هذه المرة و "رمى" بمطلب حزبه المتمثل في إجراء انتخابات سابقة لأوانها بعد الاستفتاء، كما "رمى" المستشار الملكي، المعتصم، في لقاءاته مع الأحزاب إبان التشاور معها حول مضامين الدستور في إطار الآلية السياسية لمتابعة لجنة صياغة مشروع الدستور، بجدولة زمنية تتحدث عن انتخابات تشريعية في أكتوبر. لكن بعد الاستفتاء مباشرة انخرط وزير الداخلية في لقاءات تشاورية مع الأحزاب حول الانتخابات مركزها هو انتخابات في أكتوبر! إن المشكل الحقيقي في الواقع ليس في توقيت تلك الانتخابات، ولكن في جعل توقيتها أولوية تغطي على مطالب الإصلاح السياسي الانتخابي. ومن شأن تمرير ذلك التاريخ واعتماده، أن يطلق ديناميكية سياسية تتجاهل مطالب الإصلاح الانتخابي وتلتف حولها، تحت ذريعة إكراه ضيق الوقت وطرح بديل يحافظ على "شعرة معاوية" هو تأجيل الموضوع إلى مناسبة قادمة قد تكون هي الانتخابات الجماعية! ومعلوم أن "إسقاط الفساد الانتخابي" هو مطلب شعبي يمر ضرورة، وفي حده الأدنى، عبر المطالب الحزبية السابق ذكرها. إن استمرار الفساد الانتخابي في شكله المؤسسي المتمثل في بطاقة الناخب ولوائح الداخلية والتقطيع الانتخابي غير النزيه وإشراف وزارة الداخلية على العملية الانتخابية، وتشتيت المراقبة في شبكة واسعة من مكاتب التصويت، وغيرها من الآليات الجهنمية، لا يمكن أن ينتج عنه سوى أمور تهدد مستقبل العملية السياسية برمتها والعملية الديمقراطية بشكل خاص. أولها تأكيد غياب إرادة الإصلاح الحقيقي لدى الأجهزة الرسمية الممثلة للدولة. ثانيها، زرع اليأس في الانتخابات وإعطاء المبرر القوي للمطالبة بمقاطعتها. ثالثها، اليأس من كل الشعارات الجميلة ومن كل النصوص الموثقة بما فيها نصوص الدستور الجديد. وفي هذا السياق يطرح سؤال كيف يمكن مثلا فهم نصوص الدستور الجديد المتعلقة بالديمقراطية وما يترتب عنها من مؤسسات، في ظل استمرار الفساد الانتخابي المؤسساتي؟ كيف يمكن الحلم بتحقيق ما جاء في تصدير الدستور بأن "المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة ..." ؟ بل كيف يمكن الإيمان بما جاء في الفصل 11 من نفس الدستور بأن "الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي"؟ إن هذه النصوص ومثيلاتها في الدستور الجديد سيقبرها إلى الأبد بعث الممارسات السلطوية لما قبل دستور فاتح يوليوز، ولا يمكن الثقة بوجود إمكانية تطبيق مضامين الدستور بعد ورش انتخابي بآليات إفساد رسمية مفضوحة ولا مبرر لها على الإطلاق، ولا يكلف تغييرها الدولة درهما واحدا اللهم ما سيسببه ذلك لجيوب الفساد من ضياع آليات التحكم عن بعد في نتائج الانتخابات. إن الالتفاف على إسقاط الآليات الرسمية للفساد الانتخابي ليس له سوى معنى واحد هو أن مقاومي الفساد يحفرون قبرا عميقا لوأد المشاركة الشعبية في الانتخابات التشريعية والجماعية المقبلتين. ومن شأن هذه السياسة المنتمية لزمن الرصاص أن تقتل الأمل الذي أحياه ورش تعديل الدستور وبشرت به الخطب الملكية. إننا اليوم على مفترق طرق واضح سؤاله الجوهري: هل ثمة إرادة سياسية حقيقية للانتقال إلى المغرب الذي بشر به الدستور الجديد؟ إن هذا السؤال تتفرع عنه أسئلة تضع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني أمام مسؤولية تاريخية غير مسبوقة حول دورها السياسي في تجنيب المغرب الانتكاس من جديد. إنه لا مبرر لانتخابات عامة بآليات فساد مكشوفة ومعروفة ومفضوحة ومدمرة لكل شيء اسمه الثقة في العملية الديمقراطية في هذا البلد الجميل.