ليس النص الدستوري نصا قانونيا فقط، ولو هو القانون الأسمى لأمة ما، فهو تعبير كذلك عن عبقرية أمة وصياغة لسداها الثقافي وبلورة لتوافقاتها حول القيم المشتركة، وهو بذات الوقت يعتبر مرحلة فارقة بين زمن سياسي معين ويفتح آفاقا جديدة لواقع سياسي جديد بأساليب جديدة. لقد اقترنت دساتير المملكة المغربية منذ دستور 1962 بالتمهيد لمرحلة جديدة. لقد كان دستور 1962 أول إطار قانوني عصري يضع قواعد للعمل السياسي يحدد الاختصاصات ويضبط قواعد العمل بين مختلف السلطات وُيعرَض على الشعب للموافقة عليه عن طريق الاستفتاء، بل إن أمل التحرر من ربقة الاستعمار اقترن بمد البلاد بدستور . أما دستور 1970 ولو أنه شكّل تراجعا ملحوظا من حيث اختصاصتُ السلط وتوازنها فقد كان مؤشرا على الخروج من حالة الاستثناء التي تم الإعلان عنها سنة 1965. وبذات الوقت عمل دستور 1972 على العودة إلى الحياة السياسية الطبيعية من خلال انخراط القوى الحية في العمل السياسي بعد سياق سابق مشحون إثر المحاولة انقلابية ل1971. وكان دستور 1992 توطئة لتجربة التناوب التوافقي. وقد سعى دستور 1996 من خلال عملية إثراء بنوده، ومن خلال تدابير سياسية مواكِبة أن يضع قطار التناوب على السكة وأن يتدارك ما أخفق في تحقيقه دستور 1992. وتتميز هذه الدساتير كلها بخيط ناظم، تحكمها مقتضيات ما يسمي بالنظام البرلماني المعقلن الذي وإن كان يتسم بتوازن السلط وتعاونها فإنه يأخذ من النظام الرئاسي تركيزه على السلطة التنفيذية ورئيسها فيجعله حجر الزاوية. لذلك كانت كل الدساتير التي تعاقبت على المملكة منذ 1962 عبارة عن تعديلات، وقلما يتغير تبويب فصول هذه الدساتير، إلا من حيث الاختصاصات التي تتوسع أو تتقلص حسب الدستور. بل يمكن القول إن َسدى دساتير المملكة منذ دستور 1962 إلى غاية دستور 1996 واحد لم يتغير. وُيشكّل مشروع الدستور الحالي قطيعة مع كل الدساتير السابقة، من متن ديباجته إلى كافة فصوله. ويتميز بمنهجية جديدة من حيث إعدادُه وصياغته، إذ قطع مع ما تواتر على تسميته بالهندسة القانونية بالاستعانة بخبراء أجانب، ليس لهم المعرفة الوجدانية، وأنّى لهم ذلك، بالحساسيات التي تعتور مجتمعنا. لقد كانت المقاربة التشاركية في الإعداد، رغم المآخذ التي قد ُتوَجَّه إلى تركيبة اللجنة الدستورية وطريقة عملها، أمرا جديدا، وأخذت هذه المقاربة بعين الاعتبار الأطياف السياسية والاجتماعية والثقافية، بلْه الإيديولوجية، المختلفة بالبلاد. إن النص الدستوري ليس نصا قانونيا أصم، بل هو انعكاس للمعطى الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يحبل به مجتمع ما. لذلك كانت الهوية من صلب ما انكب عليه واضعو مشروع الدستور ومن أكثر القضايا إثارة للجدل والسجال. إن تعددية المشارب الثقافية لا تقوم ضدا على وحدة القيم الأثيلة والمصير المشترك. إن التعابير الثقافية، على تنوعها، تستند في كل الدول على قاعدة صلبة من القيم المشتركة التي هي مساك وحدة أمة وتلاحمها. إن هذه القيم لهي بمثابة جذع لشجرة تضرب جذورها في أرض مشتركة، وتسمق نحو المصير المشترك، يغذي هذا الجذع َنسْغُ الحرية والمساواة والكرامة، وتمتد فروعه الوارفة لتُظل المواطنين حيثما يكونون. إن تعدد الفروع والأغصان يرتبط ارتباطا وثيقا بجذع مشترك هو الذي يمدها بالحياة والخصب. وهل يمكن أن تبسق الأغصان إن هي انقطعت عن الجذع ؟ ويعتبر مشروع دستور 2011 قطيعة مع ما يفرضه النظام البرلماني المعقلن من هيمنة سلطة على كافة السلط، وُيرسي مباديء جديدة في العمل، على غرار ارتباط مزاولة المسؤولية بالمساءلة والتضامن والحكامة الجيدة..إن اللافت للانتباه في مشروع الدستور هو تقوية السلطة التشريعية من خلال توسيع مجال التشريع ومن خلال تنصيبها مجالا للتعبير عن السيادة الشعبية، ومن خلال تفادي ما اعتبر في ظل دستور 1996 اشتغالا مزدوجا للغرفة الثانية كان أكثر مدعاة للبطء في التشريع والمراقبة منه إلى الإثراء. إن شجب الترحال السياسي، من خلال النص الدستوري، يحيل، من حيث روح النص، إلى تهذيب الحياة السياسية، والنأي عنها مما شانها سابقا. إن دسترة تعاون الجماعات المحلية والإدراة الترابية وتضامنها لمن شأنه أن يتفادى خللا كان سببا في تعطيل التنمية المحلية، وهي المجال الوثيق الصلة بشؤون المواطن. لقد حاول الاجتهاد السابق إرساء مباديء عامة للتعاون والتشارك والتساكن والتمازج، ولكنها لم تكن تحظى بقوة القانون فضلا عن التكريس الدستوري. إن إضفاء الطابع الدستوري على الجهات ُيفعّل دورها كإحدى رافعات التنمية، أسوة بتجارب دول قريبة منا مثل اسبانيا وإيطاليا. ولا جدال أن البعد السياسي لمشروع الدستور يحظى بالصدارة في سياق ما يسمى بالربيع العربي. لقد كان السؤال هو كيف تستطيع مملكة من أعرق مملكات العالم أن توفق بين شرعيتها التاريخية والشرعية الشعبية، وما هي الميكانيزمات التي من شأنها أن توفق بينهما في يسر وسلاسة وتتيح تطورا هادئا ينفتح على المستقبل دون أن يعصف بالمكتسبات أو يزري بالثوابت ؟ لم تكن المسألة بالأمر الهين، في ظل السياق الجهوي، وتحفز الفاعلين وتأثيرات الإعلام، وإغراء المقارنات والتقريبات..لقد كان خطاب جلالة الملك محمد السادس ل 9 مارس تمرينا مزدوجا للاستجابة لداعي الإصغاء، و كذا للاستباق من أجل قطع دابر محاولات التقريبات المبسطة. وتعزز الخطاب الملكي بسلسلة من القرارات السياسية الجريئة. ولم ينل العمل الإرهابي الذي ضرب مراكش في 28 أبريل المنصرم، من عزيمة الملك في السير ُقدُما بمسلسل الإصلاحات. إن هذه الإجراءات المواكِبة هي التي هيّأت السبيل لنص مشروع القانون الأساسي، بل ليس القانون الأساسي إلا حلْقة ُتهيء لمرحلة جديدة من العمل السياسي. إنه مغرب جديد يلوح في الأفق قِوامه العدل والحرية والمساواة، يبنيه أبناؤه من مختلف المشارب السياسية والاجتماعية والثقافية، من داخل المؤسسات واحترام لها. إنه نداء من أجل الوحدة والاستقرار والأمن والتنمية. إنه تجديد للعقد الذي يربط الملك والشعب، في لحظات فارقة تعطي دفقا جديدا للبلاد كما في ثورة الملك والشعب أو المسيرة الخضراء. إنه وليد من مواليد الربيع العربي يستهل استهلالا طبيعيا من غير اعتساف ولا امتحال ولا عملية قيصرية، ويحمل ملامح التاريخ ومقتضيات السيادة الشعبية دون أن يتنكر لهذا أو ذاك.