قبل الدستور تعاركت أطروحتان سياسيتان: الأولى تعتبر المدخل الدستوري الأساس الجوهري للإصلاح السياسي، والثانية، تعتبر أن دستور 1996 لم يستنفذ أغراضه، وأن التأويل الديمقراطي لفصوله إذا تلازم مع الإصلاح السياسي هو المدخل الأساسي للإصلاح. اليوم، وبعد عرض مشروع الدستور الجديد، وقع تحول كبير في مواقع النخب السياسية، كما حصل تحول أيضا على مستوى الأطاريح. فمن حيث المواقع، يبدو أن النخب السياسية التي تؤكد على الشكل- المجلس التأسيسي- تراجعت بشكل كبير لصالح النخب السياسية التي تعاملت بإيجابية مع الآلية السياسية التي تم اعتمادها لإخراج مشروع الدستور. ويمكن تفسير هذا التراجع بثلاث محددات رئيسة: 1 أن مسودة الدستور بغض النظر عن معايير اختيار أعضاء لجنة صياغته أنتجتها الخبرة المغربية في الفقه الدستوري. 2 أن الآلية السياسية التي اعتمدت تختلف عن المنهجيات السابقة التي كانت تلغي بشكل تام دور ألأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني. 3 إن الأزمة التي انتهت إليها الثورة في كل من تونس ومصر بخصوص طريقة تشكيل لجنة صياغة الدستور. أما على مستوى ألأطاريح، فيمكن أن نتحدث عن ثلاث أطروحات أساسية: أطروحة سياسية ترى أن ورش الإصلاح الدستور لم يكتمل، وأن مشروع الدستور الجديد يشكل خطوة في اتجاه تعزيز المسار الديمقراطي شريطة أن يصحب بإصلاح سياسي وبإجراءات للثقة تعطي مضمونا ديمقراطيا للدستور. أطروحة ترى أن معركة الإصلاح الدستور انتهت مع مشروع الدستور الجديد، وأن المعركة اليوم هي في التأويل الديمقراطي للدستور، وفي الإصلاح السياسي وإجراءات الثقة. أطروحة ترى أن الدستور الحالي هو تطور شكلي لدستور ,1996 وأنه يعكس تحول سلطات الملك التي كان يمارسها ضمنيا إلى سلطات تم التنصيص عليها دستوريا، وألا جديد في هذا الدستور . بين الطرح الحالم الذي يفترض شروط مثالية من حيث الشكل، ويقيس على النموذج الديمقراطي المكتمل لتحديد موقفه، وبين الطرح السياسي الواقعي الذي يقدر الموقف بناء على شروط الواقع وموازين القوى السياسية، يمكن القول، بأن النخب السياسية جميعها، باختلاف أطاريحها، تشترك في نقطة جوهرية، وهي أن وثيقة الدستور مهما اكتملت مقتضياتها الديمقراطية، تبقى غير مكتملة إن لم تصاحب عند التنفيذ بتأويل ديمقراطي، وإن لم تصاحب أيضا بإرادة سياسية للإصلاح السياسي تبدأ بتعزيز إجرارات الثقة، ومنع أي إشارات سيئة تسير في الاتجاه المعاكس. عمليا، هناك طريقتان لكسب معركة التصويت لفائدة الدستور: الطريقة التقليدية العتيقة التي تغتال اللحظة الدستورية بتحويله إلى موسم فولكلوري، يعطي الانطباع بأن الاستفتاء لا قيمة له، ما دامت السلطة تمتلك القدرة لإجبار المواطنين بالعنف الرمزي على القول ب ''نعم''، وطريقة ديمقراطية، تتعامل مع المواطنين بالطريقة التي يعرفهم الدستور بها، وتترك لهم حرية الاختيار، وتترك للأحزاب السياسية، كما الإعلام العمومي، أن يدير نقاشا سياسيا عالي المستوى حول مضامين الدستور، ويشرك المواطنين من خلال هذا النقاش في صلب السياسية وهم تدبير المرفق العمومي. لكن، ماذا بعد الدستور؟ هل سيعود المغرب إلى نفس الأساليب العتيقة التقليدية التي تقوم على منطق التحكم وصناعة الخرائط الانتخابية والتحكم في التوزير وفي النخب، وفي المؤسسات؟ بيد النخب السياسية، والقوى الحية كلمة ملكية نفيسة يمكن اعتبارها بمثابة الديباجة على ديباجة الدستور، ذلك أنه اعتبر أن ''أي دستور مهما بلغ من الكمال، فإنه ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لقيام مؤسسات ديمقراطية، تتطلب إصلاحات وتأهيلا سياسيا ينهض بهما كل الفاعلين لتحقيق طموحنا الجماعي، ألا وهو النهوض بالتنمية وتوفير أسباب العيش الكريم للمواطنين'' تضع هذه الكلمة النفيسة المعادلة السياسية التي ينبغي أن تكون خارطة طريق بالنسبة إلى النخب السياسية والقوى الحية ضمنها، وهي أن الأهم، بل والمقصود الذي يروم إليه الدستور، هو قيام مؤسسات ديمقراطية، وأن الإصلاح السياسي هو المدخل لتحقيق هذا الهدف، وأن التنمية مرتبطة بالمؤسسات الديمقراطية التي ترتبط هي نفسها بالإصلاح السياسي. بكلمة، نحن اليوم أمام مفترق طرق، إما أن نسير مع الوصفة الملكية، والتي التزم فيها بأن يكون في طليعة العاملين على التفعيل الأمثل للدستور، وشرط تحقيق مرامي الدستور وأهدافه في إقامة مؤسسات ديمقراطية بالإصلاح السياسي، وإما أن نرتد إلى التأويل اللاديمقراطي للدستور والنكوص إلى الممارسات المخزنية التقليدية. بكلمة، إن عين النخب السياسية ينبغي أن تكون مفتوحة على المؤسسات، وعلى الشخصيات التي يتم تعيينها على راس هذه المؤسسات، وعلى المنهجية التي تعتمد في التعيينات، كما يبنغي أن تستثمر كل وسائل الدفاع الشعبي والمدني من أجل الضغط لإقرار إصلاحات سياسية حقيقية تخلق أجواء الثقة، وتوفر البيئة الديمقراطية للتأويل الديمقراطي للدستور.