انطلقت في شتى أنحاء العالم، مظاهرات الغضب الشعبي العارم ضد الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني. هذه الحركة الشعبية القوية، واكبتها اتصالات سياسية ماراطونية، في محاولة لإيجاد صيغ تحفظ ماء وجه «القوى» الدولية التي وقفت عاجزة أمام آلة القتل الصهيونية. في هذا الإطار بدأ مسؤول الخارجية الأمريكي كولن باول جولة محمومة في المنطقة تحاول استطلاع الآراء والمواقف الدولية، والتغيرات التي من الممكن أن تكون قد طرأت عليها بعد التطورات الأخيرة بشكل يهدد مصالح واشنطن، وتحاول إرساء ركائز سياسية واضحة تمثل عناصر استراتيجية الولاياتالمتحدة اتجاه التعامل مع قضية «الشرق الأوسط». حملة إبادة منظمة! بعد أكثر من سبعة عشر يوما على شن الكيان الصهيوني حملته الأخيرة ضد الشعب الفلسطيني المجاهد، في الضفة الغربية التابعة نظريا للسلطة الوطنية الفلسطينية، تبدو آثار الدمار والقتل والتخريب واضحة في المنطقة، وإن كان هذا المسار ليس بغريب على العقلية الدموية للصهاينة. فعلى الصعيد الإنساني منعت قوات الاحتلال الناس من دفن الموتى وجثث الشهداء الطاهرة المتناثرة في الأزقة والشوارع، مما دفع بالسكرتير العام لاتحاد الصليب والهلال الأحمر «ديديد شربيتل» إلى التنديد بهذه الإجراءات التي تضرب بشتى القوانين عرض الحائط، متهما الصهاينة بتعمد منع وسائل الإسعاف وأعضاء منظمات الإغاثة من الوصول إلى المناطق المدمرة، خصوصا في جنين ونابلس حيث بدأت الجثث الطاهرة الموجودة تحت أنقاض المنازل التي أسقطتها قوات الإجرام الصهيوني تتحلل مهددة بانتشار الأوبئة، خصوصا منها الكوليرا، هذا بالإضافة إلى محاصرة الذين بقوا على قيد الحياة داخل المخيمات، ويوجد من ضمنهم مرضى ومقعدون وشيوخ، حيث تؤكد منظمات الإغاثة أنها لا تستطيع الاستجابة سوى لنسبة %10 فقط من حاجيات السكان، بسبب الحصار أولا، وبسبب النقص الحاد في المساعدات الطبية والغذائية، الشيء الذي يؤكد التحاليل التي أعلنت بأن جيش الإحتلال ارتكب مجازر بشعة داخل مدن الضفة وخصوصا جنين ونابلس يحاول إخفاء معالمها بتعتيم إعلامي واضح، وبإعلان بعضها مناطق عسكرية معزولة، وبتجريف المباني ودفن الشهداء في مقابر جماعية حتى لا تكون هناك صبرا وشاتيلا ثانية، كما تذهب إلى ذلك الصحافة الصهيونية ومثيلاتها داخل الولاياتالمتحدة، بحيث أن العدو الصهيوني استفاد من دروس صبرا وشاتيلا الأولى وبالتالي فبمجرد إعادة احتلاله للبلدات التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية أعلنها مناطق عسكرية مغلقة! حيث تؤكد تصريحات القادة العسكريين للعدو بأن ذلك كان ضروريا لأنه لم يكن بالإمكان تحقيق انتصار بأقل التكاليف البشرية «بحرب نظيفة!». وفي هذه الأوضاع، لا يمكن التكهن بالرقم الحقيقي لعدد الشهداء، كذلك الأمر بالنسبة للأسرى، فالصهاينة أنفسهم يتحدثون عن الآلاف! كل ذلك في ظل صمت وتخاذل عربي ودولي مريع. جولة باول، والأهداف الخفية في ظل استمرار هذا الوضع الخطير، واستمرار تذبيح الشعب الفلسطيني، انتظرت الولاياتالمتحدة مرور أكثر من أسبوع لترسل الجنرال المتقاعد أنطوني زيني الذي (قيل) إنه فشل في مهمته التي كانت تهدف حسب مصادر دبلوماسية أمريكية إلي تخفيف وتيرة «العنف» من الجانب الصهيوني، مقابل التزام فلسطيني بالقضاء على الانتفاضة واعتقال المجاهدين. لكن بعض التحاليل أكدت على أن زيارة زيني الجنرال العسكري كانت مهمة بالنسبة للصهاينة الذين توفر لديهم المزيد من الوقت للاستمرار في «مهتمهم» التي هي قتل الشعب الفلسطيني. الزيارة الثالثة لكاتب الدولة في الخارجية كولن باول ستبدأ مباشرة بعد ذلك، حيث سيعبر الرئيس الأمريكي جورج بوش عن رغبته في إرسال مسؤول خارجيته إلى المنطقة للبحث عن وقف سريع لإطلاق النار بحيث كان قد أمر قبل ذلك جيش الاحتلال بسحب قواته و»دون تأخير»، لكن هذا التصريح أثار ضجة في الأوساط الصهيونية التي اعتبرته مسا (بسيادتها) وهذا ما دفع «بباول» إلى الاتصال هاتفيا بشارون والتأكيد له بأن طلب بوش لا يعدو أن يكون مظهرا من مظاهر «التعاون» الذي يربط بين الولاياتالمتحدة وحليفتها الصديقة! المسؤولون الأمريكيون سيؤكدون أن زيارة باول ستبدأ بمن سمتهم واشنطن بالأصدقاء التقليديين وستنتهي بلقاء شارون وبعض المسؤولين الفلسطينيين دون الحديث عن عرفات شخصيا. هذا الاتجاه، دفع بالعديد من المراقين إلى التساؤل حول سلامة عرفات المحاصر بمقره في رام الله، والذي بدت في الأفق ملامح تهميشه من طرف المسؤولين الأمريكيين. وبخصوص الزيارة في حد ذاتها التي ابتدأت بالمغرب منتهية بفلسطينالمحتلة مرورا عبر السعودية (في شخص الأمير عبد الله الذي كان موجودا بالدار البيضاء بالمغرب) وإسبانيا (الرئيسة الحالية للاتحاد الأوروبي) ومصر والأردن، فقد صرح باول بأن الهدف منها هو تحقيق وقف لإطلاق النار وكأن هناك حربا قائمة بين جيشين في خطوة منه تسوي بين الضحية والجلاد ومساعدة الطرفين على إيجاد حل سريع للخروج من هذه الأزمة الحالية. الأهداف المعلنة لزيارة المسؤول الأمريكي تخفي في طياتها عدة أهداف أخرى، حيث أكدت بعض التحاليل بأن ضمان أمن الصهاينة (خصوصا بعد الضربات الموجعة التي وجهتها لهم العمليات الاستشهادية)، وإرضاء العديد من الأنظمة العربية التي باتت تخشى على نفسها من غضب الشارع العربي والغربي، وكذلك تلبية رغبة الحكام الأوروبيين الذين أصبحوا في موقف حرج بسبب الصور التي ينقلها الإعلام الغربي عن الاعتداءات الصهيونية في فلسطينالمحتلة (خصوصا بعد محاصرة الاحتلال لكنيسة المهد)، كل هذه الأمور تشكل المحرك الحقيقي وراء زيارة المسؤول الأمريكي بالإضافة إلى كل هذا يمكن أن نضيف وجهة نظر المحللين الأمريكيين الذين يوضحون من أن باول، وبغض النظر عن نتيجة زيارته سيحاول إرساء قواعد جديدة لاستراتيجية واضحة للتعامل مع ملف «الشرق الأوسط» المتفجر، بالنظر إلى كون إدارة بوش لم تكن تعط الأهمية اللازمة لهذا الملف الحساس لأنها ركزت حسب تخطيطها على القضايا الداخلية. من جانب آخر، فما تسميه أمريكا بالحرب على الإرهاب، يطرح نفسه بقوة، بحيث أن واشنطن لا تريد فقدان دعم الأنظمة العربية لها في هذه «الحملة» خصوصا وقد راج الحديث عن العراق بقوة خلال الفترة التي سبقت الزحف الشاروني الإرهابي على مدن الضفة في التاسع والعشرين من الشهر الماضي. لقاء مدريد مباشرة بعد لقاءه بجلالة الملك محمد السادس، والأمير عبد الله، انتقل باول إلى العاصمة الإسبانية مدريد، يوم الأربعاء 10 من الشهر الجاري، حيث سيلتقي مع كل من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير صولانا، ووزير الخارجية الروسي إيغور إيفانوف بالإضافة إلى نظيره الإسباني خوسيب بيكي. هذا اللقاء خصص لمناقشة التطورات الجارية على الساحة الفلسطينية والحلول التي يمكن لباول أن يقدمها باسمهم، للطرفين الفلسطيني والصهيوني. والواضح، هو أن البيان الذي صدر عن هذا اللقاء يبرز ودون غبش الرؤية الأمريكية للنزاع بغض النظر عن الأطراف التي شاركت في «صياغته». ففي هذا البيان الذي تلاه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الأربعاء 10 من الشهر الجاري، أكدت فيه هذه الأطراف بأنه على عرفات أن يبذل الجهود اللازمة لوقف ما سماه البيان بالعمليات «الإرهابية» مع ضرورة العمل على تفكيك البنية التحتية للتنظيمات المسلحة. كما دعا البيان الجانب الصهيوني إلى سحب قواته إلى ما قبل التاسع والعشرين من الشهر الماضي طبقا لمقتضيات قراري الأممالمتحدة بخصوص هذا الموضوع وهما على التوالي قراري رقم 1402 و1403 والذين تركهما الاحتلال كعادته حبرا على ورق! مع طلبه من الاحتلال احترام ما سماه «القانون الإنساني» هكذا وليس القانون الدولي حتى لا يترتب على ذلك محاكمة شارون كمجرم حرب، خاصة وأن ذلك يأتي متزامنا مع إرساء قواعد المحكمة الجنائية الدولية بعد أن صادقت عليها الأغلبية المطلوبة. لكن أهم ما تجدر الإشارة إليه بخصوص لقاء مدريد هذا هو ما ذكرته بعض الصحف البريطانية الأسبوع الماضي من كون الأوروبيين قدموا مقترحا لباول يطرحه على الفلسطينيين والصهاينة، ويتعلق بفكرة عقد قمة مدريد ثانية- بعرفات أو بدونه- مثل تلك التي انعقدت في بداية التسعينيات من القرن الماضي. وذلك لفتح قناة للتواصل ولعودة المفاوضات إلى سابق عهدها حتى تخرج الأطراف من الأزمة التي تعيشها حاليا. وفي واقع الأمر، لهذا المقترح وغيره يهدف إلى إيجاد دور أكثر فاعلية للأوروبيين الذين ضاقوا ذرعا بالغطرسة الأمريكية وهيمنتها على الشرق الأوسط، مع التذكير بأن روسيا هي أيضا تحاول استعادة هيبتها التي ضاعت في مواجهة هذه الرؤية الأحادية لواشنطن. من جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أن معطى «حزب الله» وهجماته الأخيرة على مزارع شبعا المحتلة، كانت حاضرة وبقوة في أجندة المسؤول الأمريكي. معادلة حزب الله هذه نزعت القناع عن «مبادرة» واشنطن التي أرسلت مسؤولها في الخارجية، ليس لتحقيق سلام مفترض بين الفلسطينيين والاحتلال، ولكن لضمان أمن الكيان الصهيوني، بحيث زار باول كلا من «بيروت»و»دمشق» لحثهما على «لجم» حزب الله وذلك حتى «لا تتسع دائرة الصراع». وجهة النظر الأمريكية هذه فرضتها واشنطن منذ لقاء مدريد، بحيث عبر البيان الذي صدر عن هذا اللقاء، عن «قلقه البالغ من التطورات الأخيرة على الجبهة اللبنانية!» وهذا الأمر يساهم في توضيح عناصر السياسة الحقيقية لواشنطن، المبنية على استراتيجية واضحة المعالم وإن بدت في بعض مشاهدها اعتباطية! لقاء عرفات باول أحد أهم نتائج زيارة باول قبل توجهه إلى فلسطينالمحتلة لمقابلة شارون هو الموقف الحازم الذي لقيه من طرف الزعماء العرب وكذلك الزعماء الذين التقى بهم في مدريد، بخصوص ضرورة لقاء عرفات. ذلك أن مسؤول الخارجية الأمريكي كان قد صرح لوسائل الإعلام قبل انطلاقة من واشنطن بأنه غير متأكد من أنه سيلتقي عرفات الأحد 14 من الشهر الجاري. وفي نفس السياق، عبر أكثر من %54 من الأمريكيين في استطلاع أجرته إحدى الصحف الأمريكية، على ضرورة لقاء باول بعرفات. كل هذه المعطيات وغيرها دفعت بالمسؤول الأمريكي إلى التأكيد على أنه سيلتقي الرئيس الفلسطيني، غير أنه "لا يستطيع ضمان نتائج هذا اللقاء"! وبالفعل استقبل عرفات باول بمقره المحاصر برام الله، واستغرق هذا اللقاء أكثر من ثلاث ساعات، ليخرج باول ويخبر الصحافيين الموجودين بأنه اجتماعه مع الرئيس الفلسطيني كان بناءا! موضحا بأن الرئيس الفلسطيني أدان كافة أشكال الأعمال "الإرهابية" أيا كان منفذها. وقبل الحديث عن موقف عرفات، لابد من التساؤل أولا عن حقيقة النوايا الأمريكية الصهيونية تجاهه. فظاهرا، يبدو أن التصرفات والتصريحات الأمريكية وكذلك الصهيونية، تهدف إلى تهميش الرئيس أبو عمار وتقويض سلطته وإيجاد بدائل عنه. لكن التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين من الجانبين توضح غير ذلك: فقد أكد المجرم بيريز بأن «عرفات ازدادت شعبيته في الآونة الأخيرة»، وبالتالي يجب استغلال هذا الأمر «لتمرير» بعض المعطيات التي لم يكن من الممكن تمريرها من قبل. نفس الفكرة أكد عليها الرئيس بوش مؤخرا حينما أوضح أن الرئيس عرفات «لازال أمامه الشيء الكثير ليفعله!» كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على رغبة أمريكية صهيونية في فرض شروطهما على عرفات وعلى المنطقة بأكملها عبر عرفات، ومن هنا يمكن تصورشدة الضغط الذي يمارس علىه في غياب أي دعم عربي أو دولي. بل حتى الأممالمتحدة، بدت مغلوبة على أمرها، واكتفت بدور المتفرج العاجز، خصوصا بعد رفض الكيان الصهيوني لقراريها اليتيمين 1402 و1403! خلاصة مما لاشك فيه، أن السياسة الأمريكية تعتمد بالأساس على تحقيق مصالحها الخاصة، وإن كان ذلك على حساب أرواح الآخرين وممتلكاتهم. وبالتالي فلا يمكن بأية حال الاعتماد على واشنطن في تحقيق أي انفراج مزعوم، خصوصا وأن أسلحة العدو الصهيوني كلها ذات صنع أمريكي. بل أكثر من ذلك، أكدت بعض الأنباء الواردة من المنطقة، بأن ضباطا أمريكيين وخلايا عسكرية تنسيقية أمريكية تشارك مشاركة مباشرة في الحرب المعلنة على الشعب الفلسطيني المجاهد! ومن ثم، فالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يبدو دوره محوريا في هذه الفترة العصيبة التي يقف فيها الشعب الفلسطيني وحده في مواجهة آلة القتل الصهيونية. وهكذا فالسؤال الذي يبق مطروحا هو: هل سيصمد الرئيس عرفات أمام الضغط الرهيب الذي يمارس عليه للقبول بالشروط الصهيونية الأمريكية، ويتم بذلك مشواره وحياته بإنجاز تاريخي، ويتجنب إعطاء مساومات حول الإبادة التي يتعرض لها شعب بأكمله، أم سيرضخ لهذه الضغوطات، وينفذ أوامر الاحتلال وحليفته أمريكا في إعطاء غطاء توافقي كاريزماتي للإبادة الشاملة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الصامد؟ سؤال، الأيام القليلة القادمة كفيلة بالإجابة عليه. أحمد الوجدي