كثيرة هي الأحكام الفقهية الغالية التي تطوح بكيان البيوت ولا تفكر في تشتيتها، مع أن من مقاصد الإسلام الأساسية في مجال الأسرة؛ الحرص على بقاءها قائمة ما أمكن السبيل إليها، مع إصلاح ما يعكر على سيرها، والاجتهاد في تجنب كل ما يمكن أن يسيء إلى أسرة ويهدد استقرارها. ومن سوء الطالع أن تشتهر هذه التشديدات التي تجلب النوائب والكوارث، وتطوى الأحكام الفقهية التي تستجيب لنداء الفطرة، وتوافق المقاصد الشرعية...، ولعلي في هذه المقالة أن أساهم بها لدفع الإهمال الذي لحقها، وأشد من أزر الأسر المنكوبة بالأفكار القاتلة التي تتساهل في جانب التفريق وتستروح إليه، ولا تلتفت إلى الجمع. إن الحياة الزوجية تحتاج إلى استحضار قواعد الدين التي وردت علما في القرآن الكريم والسنة النبوية، وعملا في سيرة سيد الأولين والآخرين، والتي منها: القاعدة الأولى: إن الدين سعادة للفرد في خاصة نفسه، وفي كل علاقاته مع الآخرين، وهذا مقصد من مقاصده الجليلة في الخلق، والتي أكدت عليه النصوص الشرعية، من مثل قوله تعالى:'' طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى'' فلم ينزل عز وجل كلماته التامات إلا لدفع الشقاء عن الإنسان، وجلب الطمأنينة والسعادة له. فإذا وجدتَ شقاءً في الحياة الزوجية فمرد ذلك قطعا ومن غير تردد إلى تدين وفهم للدين ليس هو دين رب العالمين. القاعدة الثانية: المعروف: وهو الاجتهاد من أجل البحث عن المعروف والعيش في ظلاله الوارفة. والمعروف هو كل ما تألفه النفوس وترتاح له الفطرة وتطمئن إليه، وتحب العيش في كنفه. ومعنى المعروف يقتضي المسلم ذكرا كان أو أنثى أن يبتعد عن كل ما تنكره النفوس ولا تعرفه، ويتأكد هذا القول عندما يتعلق الحال بالبيوتات. لقد أمر الحق بالمعروف، فقال: (وآمر بالعرف)، وأمر أن تكون أقوال الناس مع بعضهم البعض معروفة، فقال: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)، (وقلن قولا معروفا). وأمر بحياة زوجية بالمعروف، فقال: (فإمساك بمعروف)، (فأمسكوهن بمعروف)، (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف). إن الاجتهاد في الكون مع المعروف قولا وفعلا وحياة يثبت ويستقر بثقافة الاحتساب، احتساب الأجر في الأقوال والتصرفات عند الله تبارك وتعالى. إنه ميدان التسابق في الأجور بالنسبة لكل زوج وزوجة من أجل الأهل. القاعدة الثالثة: الخيرية: هي صفة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم القائل فيما صح عنه:'' وأنا خيركم لأهلي''. وعندما يستبعد الزوجان أو أحدهما أنه معني بمقام الخيرية، فإن الإصرار على الشر كنقيض لها هو الحاضر طبيعيا في مثل هذه الأحوال. الخيرية موضوع يقصد منه أن يكون الزوج وتكون الزوجة خيرا على البيت وساكنيه بالسكن والسكينة، لا أن يكون شرا ونقمة ينفر منه كل من يحيط به أو يقترب منه، ويودون الابتعاد جسديا ونفسيا. والخيرية خير، جالب للاستقرار والتودد والألفة، قال صلى الله عليه وسلم:'' خيركم خيركم لأهله..''الحديث. وجوب الفهم والالتزام: يعتبر الفهم السليم للنصوص الشرعية مدخلا سديدا لكل حياة سعيدة ، وللحياة الزوجية على الوجه الأخص، ولذلك كانت أول آية قرآنية نزولا :'' اقرأ''. ففي البدء للحياة:''اقرأ'' من هنا نبدأ. وكل ما تعيش عليه وتعتقده لا تستنكف أن تتجاوزه وتستبدل به ما هو خير، إذا استفدته من طريق العلم. إن أم المشاكل هي التفريط والإفراط اللذين استهدفا النصوص الشرعية، فاجتهد بعض الذكور إلى لي أعناق النصوص ليكون فهمهم لها إلى جانبهم، وتجتهد بعض النساء أن يكون فهمهن للنصوص الشرعية مما يجب تحقيق رغباتهن. وليس هذا منهج القرآن الكريم والدين الإسلامي في إخراج الإنسان من داعية الهوى إلى داعية العبادة لله رب العالمين. وكل حيدة عن هذا الأصل وعن القواعد التي ألممنا بطرف من معانيها يعد مجلبة للتنقص والمعابة. الحياة الزوجية ميثاق مشهود: إن جميع المتأهلين للزواج يُشهدون الناس ومن حضر عقد الارتباط، ويَشهدون أمامهم، أنهم يتزوجون على كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هم يثبتون الشهادة بمحضر العدول في ميثاق عقد الزواج (ستكتب شهادتهم ويسألون). فما بالهم عند التنازع يتناسون عقدهم وشهادتهم، فيفترقون على كتاب الناس وسنتهم والتي في غالب الأحوال تناقض شريعة الله وسيرة سيد الخلق، ويتفرقون من غير إحسان، وبتناسي الفضل الذي كان بينهم. إن على كل متزوج ومتزوجة أن يبصر بما شهد ووقَّع عليه. والذي يقتضي العودة إلى الأصلين الكريمين في كل الحياة الزوجية سراء وضراء. وتستلزم هذه الشهادة أن يستفتي المسلم والمسلمة العالم بالكتاب والسنة في حالة التنازع على وجه أخص، لأننا لا نضمن علمهما بهما من جهة، وإذا ضمنا العلم فإننا لا نضمن شبهة الانتصار لما تهواه الأنفس. أسرة نوح عليه السلام وقبل أن أدخل لبعض هذه الأحكام أعرج على قصة قرآنية لعلاقة أسرية غير منسجمة دينيا، وهي قصة نوح مع أهله. لقد ابتلي عليه السلام بزوجه وابنه الكافرين، ودرج كثير من المفسرين والمشتغلين بالعقائد ومن تناول قصة نوح عليه السلام، على التأكيد في هذه الجانب على تغليب آصرة العقيدة على آصرة القرابة، وأنها مقدمة على الدم والنسب والقرابة، ولكني لم أر من التفت منهم إلى الناحية الاجتماعية في قصة هذا النبي العظيم. إن الذي لم يعط حقه من العناية والالتفات أن نبي الله نوح عليه السلام رغم كفر زوجته التي ضرب الله بها المثل في قوله: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين). لم يطلق امرأته رغم كفرها وخيانتها الدينية، بل ولم يفرط في ابنه أيضا رغم كفره هو أيضا. فبقي عليه السلام داعيا إياه إلى الإيمان حتى في اللحظات الأخيرة لعله يلتحق بركب الإيمان وينجو من الهلاك؛ قائلا:(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) . ولما حق عليه عذاب الله عز وجل وكان من المغرقين وحطت سفينة النجاة في اليابسة، استبد الحزن بنوح عليه السلام، وحملته الشفقة الأبوية على التضرع إلى ربه، وتحركت عاطفة الأبوة والحرص على الأسرة من عذاب الله تعالى فما كان منه إلا أن يدعو ربه أن ينظر في حال ابنه، فقال سبحانه:(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ). إنه الدرس والعبرة المستفادة من قصة نوح عليه السلام في مجال الأسرة وهو الاجتهاد في المحافظة عليها وإن كانت الظروف سيئة في العلاقة مع الله عز وجل، ولكن مع القيام بالدعوة ومحاولة إبداع الوسائل المحببة والمساعدة في مجال التأليف والتقريب(يا بني اركب معنا). والدعوة لإقناع الأسرة وإنقاذها هو مطلوب الله تعالى من كل مسلم في قوله تبارك عز من قائل:(يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ). لماذا الحديث عن مقاصد الحياة الزوجية؟ إن الحديث عن موضوع الأسرة الممتدة، والأسرة الصغيرة المكونة من الزوجين والأبناء، له ما يستدعي من وجوب الحديث المتكرر عنه حتى لا تبلى المعاني الناعمة الجميلة التي تكون ابتداء، ثم ما تلبث أن تنقلب عند الكثيرين إلى جحيم لا يطاق، تكتنفه غموض البدايات، وتلقي به في متاهات النهايات الأليمة القاسية، التي يصل لهيبها وتتقاذف شواظ نارها إلى من لم يذنب من الذرية التي هي في أمس الحاجات إلى من يحضنهم ويرعاهم، كي يكون منهم رجالا ونساء للأمة صالحين، وللنفع الإنساني العام خائضين من غير تهرب أو جموح. المقصد الأول: ترشيد التدين في الأسرة: إن التنعم في مجال الرشد الذي هو مطلب قرآني تتبين به مخايل السعادة في الدارين، وتجنب الإنسان مخاطر الغي، قال تعالى:'' قد تبَيَّنَ الرُّشد مِن الغَيِّ''. فأولى هذه المحطات هي تبين الرشد في مجال الأسرة وما يجتنيه كل باحث عنه وسائرٍ على هداه من جني يانع ثمراته، وتبين الغي في الأسرة لتجنب مفاسده الحارقة لكل متلبس به. إن ترشيد التدين أمر لا يسع المسلم تركه في ما يأتي من حياته وما يذره. ومن هذه المساحات المحتاجة إليه: ساحة الحياة الزوجية الساترة للعيوب:''هن لباس لكم وأنتم لباس لهن''، فكل زوج لزوجه لباس يستره عيبه أن يطلع عليه آحاد الناس ومجموعهم، وإن كانوا الأقرب إلى قلبه أو الأقرب وشيجة إليه. لا يكون لباسَ سترٍ للمعايبِ إلى زوج لزوجه. المقصد الثاني: تصحيح التصورات وفق نور الوحيين: إن كل ترشيد للتدين الأسري لا يكتب له النسبة العالية من الرشد إذا تنكب نور الوحيين الكريمين: القرآن والسنة النبوية. وسيجد المسلم نفسه مضيعا للأعمار والخيرات الرابيات عند عدم الالتفات إلى من جاء مسددا لسيره في الحياة، القاصد سعادته فيها وفي الأخرى عند لقاء ربه، قال تعالى:'' طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى''، وإنما أنزل عليك هذا الهدى لتسعد وتطمئن. كما سيجد كل مسلم باحث عن خلاص مصيره أن ما يعيش عليه من أفكار وتصورات متعبة ليست وحيا يركن إليه، ويستند عليه في الحياة، وإنما هي أعراف وجدها، وعادات ألفها من قبله فلم يلتفت إلى تمحيصها بموازين الدين، فكانت السبب في العثرات، وستبقى ما بقي التمسك بالمفاهيم الغلط، ''أو لا يرون أنهم يُفْتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكرون''. المقصد الثالث: تجنب الوقوع في الخطيئات: إن المفاهيم الصحيحة المسددة بالهدى تجعل نسبة التعثرات في الحياة الزوجية، والخلافات المتكررة ، نسبة هزيلة لا تؤثر على سفينتها، ولا تجعلها غير قادرة على المسير. من كتاب ''مقاصد الحياة الزوجية''