لقد كشفت التحولات الجارية في المغرب عن امتلاك المجتمعات العربي إمكانيات كبيرة للتغيير، تساقطت معها عدد من المقولات التبسيطية التي كانت تعتبر المجتمعات العربية خاضعة وغير منظمة ومفعولا بها، وبأن الشباب غير معني بالسياسة وغير مبالي بما يجري حوله، وغيرها من المقولات الاختزالية الأخرى، والتي برز عجزها عن تفسير المجتمعات العربية المعاصرة، والذي يعتبر المغرب أحدها، مما يتطلب من الباحثين والمحللين في الوطن العربي والمغرب مراجعة جميع تلك المقولات وإعادة بناء نماذج تفسيرية جديدة للتحولات الجارية في الوطن العربي. كما برزت أيضا الحاجة إلى إنخراط الباحثين في العلوم الإجتماعية (علم الإجتماع وعلم السياسة والقانون العام والعلاقات الدولية والتاريخ والأنثروبولوجيا...) في المغرب في النقاشات العمومية الدائرة حاليا، حول مستقبل المجتمع والدولة والتفاعلات الحاصلة بينهما في ظل هذه التحولات الجارية، وعدم الاكتفاء بالدرس الأكاديمي أو المقالات والدراسات الموجهة إلى فئات الأقران، أو إنتاج دراسات وأبحاث تقنية لفائدة المنظمات والمؤسسات الدولية، بل برز بشكل ملح الحاجة إلى إنتاج خطاب عمومي موجه على فئات عريضة من المجتمع، يكون متسلحا بالصرامة المنهجية والعلمية، ولكنه يعانق هموم الناس ويدافع عنهم، ويكون قريبا منهم. فمثلا، يمكن ملاحظة احتشام التحليل السوسيولوجي للحركات الإحتجاجية في المغرب، والتي برزت بشكل أساسي في مسيرة 20 فبراير، مقابل حضور المقاربة التحريضية او التخويفية منها، وضمور المقاربة التحليلية لما يقع. فمن خلال متابعتي لما كتب خلال الفترة الأخيرة حول هذه الأحداث، سوءا في الصحف الورقية أو الإلكترونية، نجد حضورا باهتا للتحليل السوسيولوجي والسياسي لما وقع، فيما عدا بعض الحوارات القليلة، أبرزها الحوار الذي أجراه الأستاذ ادريس بنسعيد مع جريدة الأحداث المغربية عدد الخميس 24 فبراير ,2011 حول الأحداث الأخيرة في مصر وتونس من جهة، وتفاعلات مسيرة 20 فبراير وتأثير الوسائط الحديثة للتواصل من جهة أخرى، فقد كان الحوار ينصب في إطار سوسيولوجي نقدي، متمكن من ادوات التحليل السوسيولوجي، وفي نفس الوقت ينطلق من رؤية معرفية متحيزة للمجتمع وقضاياه التي يعيشها، وأيضا كان متوفقا من خلال تبنيه لخطاب ''وسيط''، يجمع بين الصرامة في استعمال المفاهيم وفي نفس الوقت مفهوم لفئات واسعة من الناس. وفي هذا الصدد يمكن تسجيل بعض الملاحظات بخصوص تفسير الثورة في مصر، باعتبار أن الأستاذ فاته أن يشير إلى أن ما وقع في مصر هو نتيجة تراكمات جزئية لحركيات وفعاليات مجتمعية كانت تشتغل داخل المجتمع منذ مدة طويلة وبشكل متفاوت، أهمها حركة كفاية وحركة 6 أبريل وحركة الإخوان المسلمين، هذه الأخيرة لعبت دورا محوريا في تأطير الثورة، بحيث يمكن القول بأنها شكلت العمود الفقري للثورة. وطبعا لا يمكن اختزال كل الثورة في لحظة الثورة نفسها، أو في عامل واحد أو بعض العوامل، بل هو في آخر المطاف تفاعل عدد من العوامل الموضوعية التي تفاعلت فيما بينها لتنتج الثورة في مصر. إلا أن مثل هذه المواقف المعبر عنها تحتاج إلى مأسسة خارج الأطر الجامعية التقليدية، من أجل التعبير عن مواقف علماء الإجتماع، وإحداث تراكم على مستوى الإنتاج العلمي والنقاشات العالمة حول واقع ومستقبل المجتمع المغربي، الأمر الذي والعمل بمنطق ''مؤسسات الفكر''شوىًَ شفًَ، والإشتغال بمنطق الجماعات الضاغطة، وهذا أمر منتشر في الأوساط العلمية في الغرب، بحيث أن علماء الإجتماع في الغرب لهم مواقف كثيرة تهم قضايا الدولة والمجتمع، فهم ينشرون بيانات ومواقف حول القضايا التي تهم مجتمعاتهم، وهناك أمثلة كثيرة على هذا الإنخراط في قضايا الشأن العام، أحد أبرزها مثلا الموقف الذي عبرت عنه منظمة علماء الاجتماع من أجل المرأة في المجتمع (وهي منظمة غير حكومية ذات مركز استشاري لدى ا؟؟؟لس الاقتصادي والاجتماعي في الأممالمتحدة)، حول العنف ضد المرأة، تم تضمينه في بيان مقدم إلى الأممالمتحدة إطار مؤتمر بكين+15 المنعقد في مارس .2010 إذن، يقع على مسؤولية الباحثين في العلوم الإجتماعية وظيفة مزدوجة: علمية وعملية، علمية من خلال الحفر في عمق مجتمعاتنا، والعمل على الكشف عن الميكانيزمات العميقة التي تعتمل داخلها، وكشف الإستمراريات والقطائع التي تعيشها المجتمعات العربية في ظل عوامل التغير الداخلية والخارجية، التي ساهمت بنسب متفاوتة في إحداث التغير الراهن. أما على المستوى العملي، فيبدو من الملح اليوم العمل على الباحثين المزواجة بين مستويين من الإنتاج العلمي، الأول الإنتاج السوسيولوجي الموجه إلى فئات الأقران، من خلال المجلات العلمية المحكمة والندوات المتخصصة...، ثم ثانيا مستوى أكثر انفتاحا على المجتمع، بحيث يتم التواصل مع فئات واسعة من المجتمع، يكون الهدف منها الرفع من الوعي العام، ثم العمل على المساهمة في النقاشات العمومية بخصوص القضايا التي تهم المجتمعات العربية. وهذا ما لا يتم إلا من خلال تجاوز النظرة الكلاسيكية لعلماء الاجتماع أنفسهم عن ذواتهم على أنهم ينتجون معرفة عالمة موجهة إلى الأقران أو إلى المؤسسات المانحة، والعمل على التفكير في إدراج السوسيولوجيا في عمق النقاش المجتمعي، بحيث يكون فيه السوسيولوجي في حوار مع جمهور واسع من الناس، ويتحدث بتفاعل مع الأحداث والمتغيرات، وفي نفس الوقت يتحلى بالصرامة العلمية والمنهجية المطلوبة، وهو ما عبر عنه عدد من علماء الاجتماع المعاصرين في إطار ما يسمى بسوسيولوجيا العموم، والتي '' تعترف بأن نصها يقوم ببناء صورة عن العالم وأيضا التدخل فيه بقصد''، وأن ''السوسيولوجيا الجيدة لا تخجل من تأييدها وتحيزاتها، وفي نفس الوقت تعمل على التأسيس الموضوعي للإختيارات والمواقف''-1-. ولهذا فالتفكير ينبغي ان يصب في الربط بين المعرفة العالمة التي تعتمد الصرامة العلمية والمنهجية، والتي تنتج داخل مؤسسات إنتاج المعرفة المعترف بها، سواء المؤسسات العلمية العمومية او الخاصة، وفي نفس الوقت العمل على ربط المعرفة العالمة بمشروع مجتمعي ينصت إلى قضايا المجتمع ويسعى أن يعبر عن تطلعاته وتوجيهه.