تبدو حالة الوطن العربي وفق مؤشر منسوب الديمقراطية خالية من التنافس السلمي على السلطة، بل يكاد الوطن العربي يشكل حالة استثناء مستعصية على رياح الديمقراطية الحقيقية. ويمكن تقسيم العالم العربي وفق عامل الحياة الحزبية إلى ثلاثة أقسام. الصنف الأول من الدول يمنع تأسيس الأحزاب السياسية من الناحية القانونية. وفي هذه الخانة تندرج السعودية،قطر، ليبيا، الإمارات، سلطنة عمان. الصنف الثاني يتمثل في دول تندرج عمليا في دول الحزب الواحد كسوريا، تونس أيام بنعلي، مصر. ثم هناك دول فيها قدر من الحياة الحزبية، لكن دون أن تمتلك جل الأحزاب القدرة على التداول السلمي على السلطة. وفي هذا الاتجاه يمكن إدراج عدد من الدول منها المغرب، الكويت، الأردن، الجزائر، اليمن. ومن خلال استقراء التجارب الحزبية في العالم العربي، يتضح عدم قدرة الدول العربية بشكل عام على بناء حياة حزبية سليمة. بل إن عدد منها اتجهت إلى بناء نموذج حزبي أقرب إلى النموذج الستاليني السوفياتي. ويمكن في هذا الصدد استحضار تجارب مصر الحزب الوطني، سوريا حزب البعث العربي الاشتراكي، تونس التجمع الدستوري الديمقراطي، الجزائر جبهة التحرير الوطني حتى سنة 1997 ثم مع حزب التجمع الوطني الديمقراطي، ثم تجربة اليمن المؤتمر الشعبي العام. لقد اعتمدت تجارب الحزب الأغلبي في التجربة العربية على خارطة طريق تكاد تمتلك قواسم مشتركة عديدة، منها العمل على تصدر المشهد الانتخابي من خلال الامتلاك الدائم للصف الانتخابي الأول، وأن نتائج كل الاستحقاقات الانتخابية تكون معروفة سلفا، وأن ليس هناك أية قوة أخرى بإمكانها تغيير الوضع وتحقيق المفاجأة. ثم السعي عبر عدد من الوسائل إلى تصدر المشهد السياسي عبر القيام بسلسلة من المبادرات وصناعة نجوم من المجتمع خاصة به، وبناء قطاعات تنظيمية موازية ينتفي فيه الحدود بين العام والخاص. كما تعتمد إستراتيجية الحزب السلطوي في التجربة العربية على تضييق الخناق على التوجهات الأخرى القادرة على منافسة برنامج الحزب السلطوي، لاسيما التيارات الإسلامية منها، ومنعها(حتى في حالة الترخيص القانوني لبعض تياراتها) من أن تحقق نتائج انتخابية مقدرة التي بإمكانها أنة تتحول إلى رقم صعب في المعادلة السياسية. إن أغلب التجارب السلطوية العربية انتهت، بعد اختناق قنوات تصريف الفعل السياسي الاعتيادية، إلى الاستعانة بسيناريو تأسيس أو دعم حزب السلطة الأغلبي الذي يجمع الأعيان وبعض رجال الأعمال أصحاب المصالح الضيقة، مع ابتلاع أحزاب صغيرة وتلقي هجرات بشرية من مختلف التوجهات، دون الاعتماد على منطق الاستقطاب والنضالية والإيمان برسالة الحزب. وتستفيد هذه الأحزاب على العموم من نظام امتيازي شامل توفره القنوات الرئيسية للدولة( وزارات الداخلية والعدل، وسائل الإعلام، عائدات الانفتاح الاقتصادي والخوصصة، نظام المعلومات المتوفرة لدى مختلف أجهزة الأمن...) مما يجعل ممارسة العمل السياسي خارج هاته الأحزاب(أحزاب السلطة الحاكمة) منهكة وعديمة الفائدة. بل إنه في التجارب المتقدمة لمسلك إنتاج الدولة لحزبها الأغلبي (النموذجين المصري والتونسي) تتركز الامتيازات الممنوحة للحزب السلطوي ولأعضائه وتتحول إلى عرف عام معترف به من قبل الجميع، ويتحول فيه الحزب إلى قناة لدعم منطق اقتصاد الريع والمحسوبية والنفعية. ويتم اللجوء عبر مسارات إلى تكييف مقدرات الدولة لخدمة الطبقة الضيقة للحكم اعتمادا على آليات متناغمة كتعديل الدستور لضمان ديمومة رأس النظام. ثم إطلاق يد الحاشية في المجال الاقتصادي، واعتماد منطق الولاء في التعيينات في المناصب الحساسة، وتضخيم وظيفة الأجهزة الأمنية، وأخيرا إبداع منطق توريث الحكم للابن كآلية لضمان ديمومة الدولة التي تحولت بالتدريج إلى آلية لخدمة حاشية الحاكم. في هذا النموذج الذي تنتقل فيه السلطة تدريجيا من الانفتاح النسبي إلى نظام مغلق، تضيق قاعدته لتصبح في النهاية الدولة تسيرها أقلية تمتلك القرار السياسي والاقتصادي. وهنا تصبح القاعدة الذهنية المعروفة من يتحكم في الثروة يتحكم في السلطة هي قاعدة التعامل. مع ما يصاحب ذلك من تصاعد مظاهر نهب المال العام والفساد الكبير وخلق صناديق سوداء. وحينما يتم تطويع الحقل الاقتصادي يتم استثمار ذلك من مقربي الحاكم وعائلته وحاشيته وكوادر الحزب السلطوي على المستوى السياسي. والنتيجة استئثار القلة بالقرار السياسي. إضافة إلى أن شروط تكافؤ الفرص والمنافسة الحرة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تظل بعيدة المنال بالنسبة لمن يسعى الاستقلالية عن برنامج الدولة الرسمي. والنتيجة المنطقية انسداد آفاق التغيير السلمي، وانهيار الاقتصاد، وفقدان مقومات استقلال القرار الداخلي والارتهان للخارج، وتفاحش مؤشرات الفساد، وتدحرج لكل مؤشرات التنمية البشرية. ماذا بعد انهيار النموذج؟ مقارنة مع التجارب العربية في بناء الحزب السلطوي. يتضح أن الأصالة والمعاصرة يعتمد على عدد من ميكانيزمات أحزاب السلطة، منها تجميع أكبر كتلة من الأعيان ورموز من ماض انتخابي لتكوين حزب أغلبي، تمحور الحزب حول شخصية عالي الهمة وارتباط تحركات الحزب بصفة حزب صديق الملك وحزب وزير داخلية سابق. هناك أيضا حصول الحزب على امتيازات واضحة. منها مايسمى بالترضية القضائية في ملف النواب الرحل، ثم هناك الترضية الإدارية بتسجيل إزاحة مسؤولين لمجرد أن حزب الهمة انتقدهم. استهداف التيارات المخالفة إيديولوجيا أو سياسيا، تصدر المشهد الانتخابي مع لحظة الولادة، استغلال تحيز الإدارة والإعلام العمومي لتمرير مواقفه وفتح جبهات المواجهة مع المنافسين، عدم الإيمان بأبجديات العمل الحزبي التنافسي، بناء قاعدته التنظيمية على منطق الولاء والامتيازات، استقطاب عناصر ونواب من مختلف الأحزاب لتكوين خليط من مناصري الحزب متنافري التوجهات والمصالح. كل هذا دفعت عدد من المهتمين إلى القول بأن حزب عالي الهمة يتجه إلى تونسة أو تمصير المشهد السياسي في المغرب. لكن ماذا بعد انهيار النموذج؟ يذهب حسن قرنفل، أستاذ جامعي، إلى أن على الأحزاب السياسية أن تدافع عن ضرورة تعامل الإدارة مع حزب الأصالة والمعاصرة بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع بقية الأحزاب، وعليها أن تملك الوسائل الكافية والضرورية لفرض صوتها والمناداة برفع الامتيازات عن هذا الحزب إذا كانت. وعلى الوزير الأول باعتباره رئيس السلطة التنفيذية التدخل في المحطات التي يخرج فيها هذا الحزب عن الدور المحدد له، أو عندما يتم التعامل معه من طرف الإدارة بشكل مميز. من جانبه، يرى محمد الساسي أن من أولويات المرحلة مغربيا ضرورة هجر فكرة إعادة هيكلة الحقل السياسي من أعلى، واحترام استقلالية الأحزاب، وإيجاد صيغة مقبولة لحل مشكلة اسمها ''حزب الأصالة والمعاصرة'' وفتح تحقيق نزيه حول علاقة الحزب بأجهزة الدولة . ومحاسبة من ثبتت مسؤوليته في الإخلال بقواعد المساواة بين الأحزاب السياسية، واتخاذ التدابير التي يفرضها ثبوت هذا الإخلال. وعلاوة على ذلك، تبرز أيضا أهمية تبني الأحزاب السياسية لإصلاحات داخلية تسمح لها بتجاوز عدد من الاختلالات الداخلية فإن القضاء على إمكانات استنبات النموذج الحزبي السلطوي في التربة المغربية بحاجة إلى شروط موضوعية وإمكانات دستورية تسمح لها بتطبيق برامجها والوفاء بالتزاماتها وشعاراتها التي تقطعها على نفسها أمام الناخبين، والتداول السلمي على السلطة الحقيقية. وظيفة الحزب السياسي في الديمقراطية في مؤلفهما ''الأحزاب السياسية والتنمية السياسية'' يعتبر كل من ''فينر'' و''لابالومبارا'' أن الحزب السياسي يجب أن يرتكز على أربعة شروط حتى يقال أننا أمام حزب سياسي عادي، أولها تنظيم دائم ومستمر. ثانيا أن يكون له تنظيم محلي وطيد، يقيم صلات منتظمة ومتنوعة مع المستوى الوطني. ثالث الشروط وجود إرادة واعية للقادة الوطنيين والمحليين لهذا التنظيم لأخذ السلطة وممارستها لوحدهم أو مع الغير وليس فقط التأثير فيها. رابعا البحث عن دعم شعبي من خلال الانتخابات. ويقتضي التنافس الحزبي على التداول على السلطة، وجود الدولة الديمقراطية. ذلك أن الغاية من وجود حزب سياسي في الدولة الديمقراطية هو ممارسة السلطة عبر احترام التداول الديمقراطي. وفي العالم العربي لابد للبحث للحزب السياسي عن وظيفة دون هاته. وهنا تطفو إلى السطح إشكالات كبرى منها طبيعة المثن الدستوري، ثم إشكالات كبرى تتعلق ببنية السلطة في العالم العربي سواء شرعية وجودها أو بموقع السيادة داخلها، وكذا بطبيعة الأدوار المسموح بلعبها لمجمل الفاعلين السياسيين. فماهي وظيفة الحزب السياسي في الرقعة العربية مادام أن وظيفة الحزب الطبيعية في الدول الديمقراطية هي ممارسة السلطة عبر التداول؟ ويعتبر نادر فرجاني، باحث مصري، أن أزمة الحكم في البلدان العربية تكمن في ثنائية الفرد المؤسسات ومايتفرع عنها، فعلى اختلاف الشكل الرسمي للحكم في البلدان العربية يدور نظام الحكم في غالبيتها حول فرد يكاد يكون مطلق اليد في السلطات، كما يعرف البناء المؤسساتي للحكم ضعفا شديدا، وبخاصة فيما يتصل بوظائف الضبط والرقابة. في هذا السياق تعتبر الأحزاب السياسية مؤشرا على التعددية السياسية وإمكانية التداول السلمي للسلطة إذا سمح لها بالعمل العلني والتنافس الانتخابي على قدم المساواة بينها للحصول على أغلبية مقاعد البرلمان وتشكيل الحكومات.