فدوى العروي، الشابة التي قايضت حياتها وأغلى ما يمكن أن تملك بسكن لا يتعدى أمتارا معدودات لإيواء طفليها. التجديد زارت ''أسرتها'' ووقفت على حجم الصدمة التي خلفها الحادث الذي أصبح حديث الخاص العام وتناقلته كبريات وكالات الأنباء، سيما في وقت كانت تترقب فيه وصول جثتها من الدارالبيضاء، وتقصت حقائق ما وقع، ووقفت على جزء بسيط من معاناة هذه الأسرة البئيسة في كاريان عبد العزيز بسوق السبت. حزن حالة من الحزن والألم والترقب، نسوة قضين اليوم بأكمله أمام عتبة بيت فدوى التي كانت إلى الأمس القريب نكرة لا يعرفها سوى أفراد أسرتها الفقيرة، وطفليها اللذين مازالا لم يستوعبا بعد ما حصل، يترقبن وصول جثمانها، بعدما لفظت أنفاسها بمستشفى ابن رشد بالدارالبيضاء. للوصول إلى دوار عبد العزيز لابد من المرور على كاريان ''الباطوار'' الذي لا ينقص بؤسا عما كان عليه أقدم كاريان بسوق السبت المدينة. نسوة لم تكن شيئا مذكورا قبل أن تضرم فدوى النار في جسمها ذي الواحد وعشرين ربيعا، لتصبحن في واجهة الأحداث المتداولة عند الخاص والعام. أرشدتنا سيدتان كانتا في اتجاه بيت فدوى لتقديم التعازي، وأي عزاء؟ ولمن؟ فالجميع بئيس، وكلهم أسى وأسف لما وقع. تقدم أحد الرجال على أنه أبو فدوى ''محمد العروي'' رجل في الأربعينات من عمره، قصير القامة، نحت الفقر في وجهه أخاديد غائرة، تخفي كل واحدة منها قصة من قصص شظف العيش وقلة ذات اليد. إهانة تردد محمد قبل أن يطمئن ليدخل معي في الحديث عن ملابسات حادث إحراق فلذة كبده ابنته البكر لجسدها في الشارع العام أمام مؤسسة دستورية منتخبة (المجلس البلدي لسوق السبت)، قال محمد وقوة الصدمة زادت من ضعف جسمه الضعيف أصلا ''انا لم أحضر الحادث إلا أن الجميع أكد لي أن ابنتي تعرضت للاستفزاز والإهانة من قبل مسؤول بالمجلس البلدي لسوق السبت''، وقطعت حديثنا سيدة بالقول ''قال لها سير فحالك البرهوشة''، أكيد أن السيدة استحيت لقول الوصف بالضبط لأن المجلس به رجال. لكن المسؤول الذي زارته ''التجديد''، وهو في دورة المجلس، وعاودت الاتصال به هاتفيا للرد على الاتهامات الموجهة إليه من قبل أسرة الضحية فدوى، نفى معرفته بهذه السيدة بالقول أنه لم يقابلها قط. وواصل محمد حديثه عن ربط الحادث بقضية السكن الذي لم تستفد منه ابنته رغم أنها كانت تقطن في ''الكاريان'' في براكة لها مع طفليها، مشيرا أيضا إلى''أن الإحصاء لم يشمل ابنته لأنها كانت غائبة تسترزق، فحرمها المسؤولون من الاستفادة بدون موجب حق''. مهما فسر محمد السبب والمسببات، فلن تعيد له فلذة كبده التي وإن توفيت يضيف فإن معاناتها ستلازمه إلى القبر لأنها خلفت طفلين رضا 5 سنوات، وآية 8 سنوات، حمل آخر يزيد على محمد الذي غلبه الزمن وقسم ظهره وهزم رجولته. فآخر كلمتها مازالت تتناقلها هواتف الشباب الذي حضر الفاجعة وهي تصرخ مطالبة بحقها في السكن، وتؤكد على أنها في كامل قواها العقلية... مقاضاة أقسم مصطفى، أخ الضحية شاب في مقتبل العمر وهو في حالة هيجان من الغضب، أنه لن يتنازل عن روح أخته ولن يتركها تذهب هدرا، مهددا بمقاضاة رئيس المجلس البلدي الذي يتهمه بأنه سبب هذه الفاجعة لعدم وفائه بوعوده، وتمكين أخته من سكن يحفظ كرامتها وكرامة طفليها، مضيفا سأبلغ صوتي إن اقتضى الحال للامم المتحدة والمنتظم الدولي حتى تنصف أختي.. جذبني الشاب من يدي وأدخلني بيتهم الجديد الذي استفادوا منه منذ 4 أو 5 اشهر في إطار البرنامج الوطني ''مدن بدون صفيح''، وهو في الحقيقة أقرب إلى الكوخ منه إلى الدار، إذ باستثناء الجدران المحيطة بالبقعة الأرضة، فإن السقف عبارة عن أكياس بلاستيكية تقيهم من تسربات مياه الأمطار ولفحات البرد دون أي تجهيزات تذكر ولا أثاث منزلية، فقط كل ركن في هذه الغرفة الوحيدة المعدة لكل شيء طبخ ونوم واستراحة... يوحي بحياة قاسية، إذ تتكدس في هذا الركن (2 أمتار على 3 تقريبا) ثمانية أجساد الأم والأب و3 شبان (17 و15 و12 سنة) ثم فدوى وطفليها، وأحيانا ينضاف الجدين ليكتمل المشهد البئيس بجميع تجلياته، مشهد توارثته الأجيال في هذه الأسرة. وأوضح محمد ومعه مجموعة من شباب ورجال الدوار أن هذا البرنامج إنما هو در للرماد في الأعين فقط، إذ تحولت الأسر من براريك إلى براريك من نوع آخر، بل منهم من أصبح يحن إلى البراكة الأولى التي توفر شروطا أفضل للاستقرار بكثير مما توفره هذه الحيطان. وصرخت مجموعة من السيدات ان الوعود التي تلقوها قبل هدم براريكم لم يتم الوفاء بها، ومن أهم الوعود ذكرت النسوة مجانية الربط بالماء الشروب والكهرباء والإعانات الضرورية لبناء البقعة، لأن اغلب المستفيدين لا يقوون على تكاليف البناء... غليان سيدات رجال وشباب من سكان هذا الكاريان الجديد في حالة هيجان قصوى ينبئ بتداعيات قد لا تحمد عقباها إن لم يتم التدخل السلمي والإيجابي على الفور لإيقاف ارتفاع الضغط بسبب ما عرفه هذا المشروع، الذي استفاد منه حوالي 391 أسرة، مما قالوا عنه ''اختلال''، وأشاروا أن هناك حوالي 80 بقعة لم توزع بعد، وأن هناك طابور ممن حرموا مازالوا ينتظرون. مأساة حقيقية تناقلتها كبريات الوكالات، وأرعشت أجسام ممن لازال لديهم حس إنساني: مطالب بسيطة لا تتعدى صون الكرامة أهدرت من أجلها روح في ريعان شبابها لسيدة أعياها التدحرج بين الوعود الرسمية، ونظرة المجتمع المزدرية، وقساوة العيش مع أسرة لا حول ولا قوة لها. حسن البعزاوي