السياق ليس خاف على أحد السياق الدقيق الذي نمر منه، سياق الثورتين التونسية والمصرية، وسياق الاحتجاجات والثورات الممتدة في باقي الدول العربية، اليوم صرنا تحت سماء جديدة ودخلنا عصرا جديدا صار فيه للشعوب كلمتها التي على كل مسؤول أن يفهمها على بساطتها في الوقت المناسب قبل أن تتحول تلكم الكلمة إلى ثورة لا راد لقضائها إلا الرحيل. وفي مثل هذه السياقات التي يصير فيها الحليم حيرانا ، ويكون الخيار بين الشرين والمفاضلة بين الخيرين، وتكون المصلحة مخلوطة بالمفسدة، وتكون المصلحة الخالصة التي لا تخطؤها العين أصعب من خرق القتاد؛ في هذا السياق يكون العاصم من "القواصم" هو التزام المنهج والتشبث بالمشروعية واحترام المؤسسات وإعمال المقتضيات المنظمة لتجمعاتنا والاحتكام إليها لأنها إنما وضعت لمثل هذه الظروف لتحسم الخلاف وتيسر القرار وتحفظ حرمة المؤسسات ومصداقية المسؤوليات. في هذا السياق الدقيق بما هو تفاعل للمغاربة مع ما حولهم، كانت الدعوة إلى الخروج يوم 20 فبراير 2011 من قبل شباب الفايس بوك، وعلى عكس مصر وتونس، فإن النقاش حول الموقف من الحدث وصل إلى الطبقة السياسية باكرا، وبدأ الإعلان عن المواقف القبلية إما دعما أو صمتا أو امتناعا، وهذا سياق ساق حزبنا إلى بيان موقفه أيضا، وهو الأمر الذي ابتدأ بموقف الأمين العام من خلال تصريحه لموقع إيلاف ومنه ما يلي: ''لم توجه إلى حزبنا أية دعوة للمشاركة في هذه المسيرة، وحتى لو تم ذلك ما كان لنا أن نشارك، إننا حزب سياسي مسؤول، وعليه لايمكننا المشاركة مع كل من دعا إلى الاحتجاج'' ومنه أيضا ''ممكن أن نتقاسم معهم بعض المطالب، لكن لنا اختلاف أساسي معهم، فهم ليسوا حزبا سياسيا، ونحن حزب سياسي مسؤول.''، وانتهى الموقف ببيان الأمانة العامة التي اعتبرت أن حزب العدالة والتنمية غير معني بالمشاركة في التظاهر يوم 20 فبراير 2011. وفي سياق آخر بدأ حديث بين عدد من الإخوة والأخوات حول أحقية الأمين العام بالتصريح بما صرح به، وهنا بدأت أخبار تروج بأن بعضا من أعضاء الأمانة العامة لا يتفقون مع هذا الموقف، وانتهى الأمر بتداول بلاغ علم فيما بعد أنه صيغ من قبل الأخ مصطفى الرميد ووقعه أعضاء من الأمانة العامة هم الحبيب الشوباني (1) وعبد العالي حامي الدين،وعبد العزيز أفتاتي، إضافة إلى الكتاب الجهويين لجهات مكناس وسوس والدار البضاء الشاوية وكلميم وطنجة بحسب ما نشر في جريدة أخبار اليوم عدد 372 بما أن البلاغ كما يتداول عبر البريد الإلكتروني غير مرفق بأسماء الموقعين عليه. ورغم تفهي لثقل السياق الأول المتمثل في سياق الثورات والارتجاجات التي تعرفها منطقتنا العربية، ورغم تسليمي بالسياق الثاني المتمثل في تصريح الأخ الأمين العام دون اعتبار لدقة وجسامة السياق الأول واستحسان التريث في التصريح إلى حين انعقاد الأمانة العامة، فإنني لا ولن أخفي تذمري واستهجاني للبلاغ المذكور وكما قلت لبعض الإخوة الموقعين عليه فإنه دون شك بلاغ سيء إلى درجة كبيرة، إذ يؤسس لمنهج عبثي وهو بتعبير الأستاذ يتيم في وصفه لبيان الشبيبة وهو بالمناسبة من جنس البلاغ موضوع هذا المقال، من حيث خرقه للمنهج. فبلاغ الشبيبة بحسب الأخ يتيم ''خطأ واضح أو لنقل خطيئة أي ضربة في الصميم للمنهج العام للحزب... وإقرار هذا النوع من السلوك معناه انفراط لعقد الحزب ولقواعد العلاقات التنظيمية فيه، إذ لوجاءت كل هيئة (أو فرد) من هيئات الحزب (أو أفراده) تتخذ القرار الذي تراه ولو تعارض مع القرارات الصادرة عن هيئات الحزب لانفرط عقده . فقرار الحزب بعدم المشاركة حتى لو أننا افترضنا أن فيه سوء تقدير أو أنه خطأ إلا أن البيان (أو البلاغ) خطيئة لأنه يمس المنهج العام للحزب وقواعد العمل فيه .'' والآن دعونا نتأمل بعض الشيء في هذه النازلة، ونعيد النظر كرتين حماة ''النضال الديموقراطي'' سبق وأن قلت يوما في أحد اجتماعات اللجنة السياسية المنبثقة عن المجلس الوطني، وكان ذلك في سياق التعليق على التهديد بالاستقالة من البرلمان الذي قام به الأخ مصطفى الرميد، أنني شخصيا أحس بالاستفزاز حينما يتصرف عدد من إخوتنا ومنهم بعض موقعي هذا البلاغ، حينما يخرجون في عدد من المحطات عن هيئات الحزب التي ينتمون إليها، ويصرفون مواقف تجعل منهم في نظري، يتوهمون أنهم حراس للحزب ونضاليته، وكأن لولاهم لانهار الحزب، ولولاهم لانحرف المسار، ولولاهم لما استطعنا قول لا حينما يلزم. أصدقكم القول أنني أشعر باستفزاز غريب حينما أنظر إلى إخوة لا يستطيعون أن يقنعوا هيأتهم التنظيمية التي ينتمون إليها بموقفهم، فيخرجون إلى الناس كأنهم يأخذون مسافة من موقف الهيأة وكأنها حادت عن منهج الحزب ونضاليته ومصداقيته. وبالعودة إلى البلاغ المذكور الذي صدر، فإن قارئه يستخلص منه، من الناحية السياسية، أن الأمانة العامة من خلال بيانها لم تستوعب بعد أطروحة النضال الديموقراطي، ولم تفقه السياق العربي من حيث انتفاضاته الممتدة، ولم تستحضر السياق الوطني بما يسجله من تراجعات وانتكاسات،ولم تصغ إلى النداءات الداعية إلى التظاهر السلمي يوم 20 فبراير، وبالتالي أخطأت موقفها، في الوقت التي كان لزاما علينا، لاحظوا كلمة لزاما التي ساقها البلاغ، أن نستجيب لحلف دار عبد الله بن جذعان. إن هذا المنطق هو الذي يعود مرارا ليشعرنا بأننا قاصرون كهيئات في حسن قراءة السياقات والمحطات، وقاصرون في الحفاظ على المسار، وعدم تحريفه، بل يمكن أن تدفع هذا المنطق إلى مداه، وتتساءل ماذا لو صرح الأخ الأمين العام بعكس تصريحه، هل كان سيعترض ''حماة النضال الديموقراطي'' اعتراضا منهجيا ويدعونه إلى ضرورة العودة إلى الهيأة قبل التصريح. إنه بكل أسف منطق فاسد ينبني على تمركز شديد حول الذات بما هي وحدها التي تمتلك حسا نضاليا إضافيا، وقدرات تحليلية استثنائية، وحرصا حريصا على ثوابت الحزب ومبادئه. ليسمح لنا الإخوة الكرام، إن النضال الديموقراطي هو مسار، سرنا فيه اقتناعا واختيارا، وهو حمال لأوجه من حيث الموقف المناسب للظرف المناسب، وهو تقديرات في السياسة تحسمها المؤسسات وضوابط اتخاذ القرار، فلسنا ناديا للتفكير السياسي حتى نقول أن الظرف السياسي عميق وبالتالي جاز لنا ''التمرن على ممارسة الاختلاف في اللحظات الصعبة''، كما أننا لسنا جمعية حقوقية تمارس الاحتجاج كل وقت وحين؛. نحن حزب سياسي مسؤول، ونحن لمن ينسى أو يغفل، ثمرة مشروع بنيناة ذرة ذرة، ولبنة لبنة لأكثر من ثلاثين سنة، أصولنا ثابتة وفروعنا تمتد في آفاق الوطن تؤتي أكلها كل حين. إن النضال الديموقراطي يبدأ أولا داخل التنظيم، والنضال الديموقراطي ليس هدفا في حد ذاته، بل هو وسيلة لبناء دولة المؤسسات القوية والمسؤولة، ولا يتصور بناء مؤسسات قوية لا تحترم فيها المشروعية، وتكون فيها الغلبة هي العملة الرائجة، ويمارس فيها الفرد الاستبداد الصاعد، متى شاء ومتى لم يعجبه قرار، بل أكثر من ذلك، يصوغ بيانا مضادا للهيأة التي ينتمي إليها، ويحشد له توقيعات تؤكد أن الرأي هو ما يراه هو لا غيره. فهو عقل لا كالعقول، ومناضل لا كالمناضلين، وهو الضامن لسلامة المسار، والحارس لصدق النضال، ولولاه لأصبح النضال الديموقراطي بدون طعم ولا لون ولارائحة، ويتخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه، وهو بالمناسبة وحده من يملك الإناء المناسب للنضال الديموقراطي كما يفهمه. معذرة إخوتي الكرام، ولكن ما تربينا عليه وما تشربناه عبر سنين عدة ومراجعات متتالية، أن المؤسسة تصيب ولو أخطأت، وأن الفرد مهما علا كعبه وكثر عدده، وأن العقل المنفرد، وإن بدا لصاحبه متعددا، فهو مرجوح، وإن أصاب. فرجاء لا تخرجوا علينا كل حين لتجعلونا نحس بأننا لولاكم لما كنا، ودون نضالكم لما ناضلنا، وبدون إقدامكم لما أقدمنا، وفي غيابكم لما رشدنا. تصوروا ولو مرة أننا كما أنتم رجال لا تعدمنا الشجاعة، وأننا كما أنتم أشجار نموت وقوفا وإن أراد من أراد إذلالنا، وأننا كما أنتم أحرار نحسن الكر والفر، ولسنا عبيدا لا نحسن إلا الحلب والصر. الطاعة في المنشط و''المنشط'' إن أسوأ ما في البلاغ المذكور أنه يؤسس لثقافة جديدة تنسف مفهوما أساسيا من مفاهيمنا التنظيمية المبنية على مبدأ '' الطاعة في المنشط والمكره في المعروف''، وهو مبدأ ضابط للأهواء الفردية، وملجم للتقديرات الشخصية، وضامن للانضباط اللازم للانتظام والاصطفاف صفا واحدا وراء المشروعية، وإعمال القنوات المشروعة للمحاسبة والمساءلة للمسؤولين نصحا ونقدا وتواصيا بالحق. وإلا بالله عليكم ما معنى الطاعة في الأمور التي تناسب أهواءنا وتتماشى مع خياراتنا وقناعاتنا وآرائنا، ما صدقية الانضباط لقرار أنا متفق عليه ومقتنع به، ما جدوى الطاعة في المنشط، وهي أول درجات الطاعة وأيسرها إذ لا يتصور عقلا أن يعصي الإنسان أمرا فيه منشطه. إن مفهوم الطاعة في المعروف إنما يكون له معنى حينما يكون مظنة المشقة بحمل النفس على ما تكره، وإلزامها بما لا تحب أو تفرح. ذلك هو جوهر الانضباط التنظيمي، وذلك هو عين الطاعة في المعروف، بعد أن يعبر الانسان على رأيه، ويتحمل مسؤوليته حضورا لا غيابا، وتدافعا لا انسحابا، وتواصيا بالحق والصبر لا تملقا أو نفاقا. وليسمح لي الإخوة موقعي البلاغ مرة أخرى، لم توفقوا، واختلط عليكم الأمر، وشبه لكم، فظننتم أن اللحظة التاريخية التي نمر بها تبيح لكم أن تخرقوا قواعد الاجتماع، وأن خرجة 20 فبراير على أهميتها، تسوغ لكم أن تصوغوا بلاغا مضادا لهيأة أنتم أعضاء فيها، وأن تحشدوا لذلك توقيعات علها تشعركم أنكم تمثلون نفرا من القوم قد يمنحونكم مشروعية خرق سفينة مساكين يعملون في السياسة ولم يفقهوا دقة اللحظة التاريخية، وأن علمكم اللدني أطلعم أن وراءنا شعبا يأخذ كل سفينة غضبا لا غصبا. إن الطاعة في المنشط والمكره في المعروف من قواعد اجتماعنا، وهي أيضا أدوم من 20 فبراير وإن كان هذا اليوم معبرنا إلى الجنان، فما جاز لعاقل أن يستبدل الذي هو أيقن بالذي هو أظن، واليقين في تقديري هو أساس اجتماعنا، وضوابط منهجنا، ومشروعية مؤسساتنا، والظن هو غير هذا. السنة السيئة ونقض الغزل ومن أسوإ ما يتضمنه البلاغ من نقض لمقومات اجتماعنا هو سنه لهذه السنة السيئة التي ستدفع في حال شيوعها وشرعنتها لا قدر الله، كل من لم يعجبه قرار لهيأة هو عضو فيها، أو لمنظمة هو مناضل فيها، أن يوجد أدلة وقرائن لن تعدم، ثم يخرج هو وبعض من صحبه ليثبت بالأدلية القطعية أن قرار الهيأة المعنية أمر يخاف مبادئ القضية. وذلك هو عين ذهاب الريح، وهو كما نعلم محصلة الافتراق المذموم. إن هذه السنة السيئة ستجعل من كل هيأة ومن كل مسؤول رهينة مع وقف التنفيذ لكل أحد من الأعضاء، فكل قرار أو موقف أو تصريح، لن يعدمه مخالفون أو ناقمون، منتقدون أو مراجعون، وحينها ستصبح كل هيأة وكل مسؤول يبحث عن إجماع لم يحصل قط، ولن يحصل قط. ولن يكون لكل أحد ومنهم موقعوا البلاغ حق الاعتراض، ما دام أن الناس سواسية أمام بعضهم، ولا فرق بينهم إلا بالتقوى، والتقوى عند رب عليم وحده لا سواه، ''إن أكرمكم عند الله أتقاكم''. إن البلاغ المذكو هادم للمنهج، ومؤسس لسنة سيئة تنقض غزلنا بعد قوة أنكاثا لا قدر الله، وهو أمر يستدعي من موقعيه أن يراجعوا وأن يعتذروا. ختاما قبل وبعد 20 فبراير لا أريد أن أعبر في هذا السياق عن موقفي من الخروج أو عدمه للمشاركة في 20 فبراير حتى لا أشوش على مضامين منهجية أريد لها أن تسمو على هذه اللحظة الظرفية على أهميتها، لذلك أؤكد أن عين العقل كانت تقتضي مساءلة الأمين العام عن تصريحه من داخل مؤسسة الأمانة العامة في مدى توفقه في ممارسة حق ابتدائي له بالتعبير عن مواقف الحزب، وهو حق قد يصيب فيه الأمين العام أو يخطئ، وهو أمر لا يعطي للموقعين على البلاغ بأي وجه من الأوجه حق إنشاء حق لهم غصبا، خارج كل الضوابط والأعراف، يمنحهم مشروعية إصدار بلاغات مضادة لمواقف هيئات ينتمون إليها. لقد قلت لأحد الاخوة الأعزاء من موقعي البلاغ، وهو يبسط لي بعض الحيثيات لا يسمح المقام بذكرها، أنني كنت مستعدا لسماع موقفك لو أنك عبرت عن ذلك داخل الأمانة العامة، أو دعوت إلى عقد مجلس وطني استثنائي يتم فيه تقييم أدائنا السياسي في هذا الظرف الحساس، وإذا كانت محصلة تقييمنا الجماعي المؤسسي أن الأخ الأمين العام، على حبي وتقديري له وعدم إخفائي لانسجامي معه، قد أخطأ، أو أنه لم يكن قادرا على تدبير المرحلة، أو أن مشروعيته ضعفت إلى درجة فقدانه لثقة مؤسسة الرقابة فآن ذاك جاز لنا سحب الثقة منه، وإعمال المساطر المنظمة لاختيار أمين عام جديد قد يكون هو أو غيره ممن ستختاره جموع المؤتمرين. ذلك كلامي مع الأخ العزيز، وأضفت قائلا له، الآن أنا مناصر للأخ الأمين العام مناصرة منهجية وإن افترضت جدلا أنه أخطأ التقدير. ختاما قبل 20 فبراير وبعده، لن يضر حزب العدالة والتنمية أن يثبت في حقه أنه أخطأ الموقف، ولن يضيره أنه لم يوفق في اختيار الموقف السليم أو المناسب إذا ثبت بعد حين أن موقف الأمين العام والأمانة العامة كان يجانب الصواب، كما أنه من المحتمل أن يكون لموقفنا هذا ضريبة بأن ينال من شعبيتنا أو أن يتهمنا هذا أو ذاك بما يشاء، أو أن يأخذ ''الشعب سفينتنا غضبا''، كل ذلك ممكن ومحتمل، فما هي السياسة إن لم تكن حصادا لثمن موقف أو قرار إما ربحا أوخسارة، وتلك سنة السياسة كما يتداولها الناس، ولو كان الأمر غير ذلك لخلد كل حزب في موقعه ولما تداول الناس على السياسة معارضة وموالاة، إصابة للمرمى أو إهدارا لهدف محقق؛ إن ذلك كله ممكن ومتصور، وغير المتصور هو أن ننقض أسس منهج ارتضيناه، وأن نضيع قواعد عمل بنيناه، وبعد 20 فبراير نجد أنفسنا حيارى لا موقفا أصبناه ولا منهجا حفظناه، وتلك لعمري هي الخسارة كل الخسارة لا قدر الله. وفي النهاية، أعتقد أن جسمنا أسلم من أن ينهار بمثل هذا الخطأ، الذي أرجوه كبوة لجياد أصيلة لن تلبث أن تستعيد توازنها، وتسترجع مواقعها، وتثبت كما ظننا فيها أصيلة أوابة.. حفظكم الله جميعا دون استثناء وخلافنا مهما علا لن يفسد ودنا.. ودمتم سالمين. عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية وحرر بطنجة في 15 ربيع الأول 1432 ه الموافق ل 19 فبراير 2011