عندما تعم الأزمة والبلاء ويغطي تأثيرهما الجميع ودون استثناء، يتداعى الشتات إلى طاولة التشاور لبحث الخطط واقتراح الآليات الكفيلة بدرء مفاسد هذه الأزمة، وعلاج مسبباتها واستشراف وضع أفضل ضمن طرح يؤطره التضامن على قاعدة المصير المشترك، وتشد عضده وحدة الموقف وتغليب المصلحة الكونية العامة على المصالح القطرية الخاصة. هذا ما حدث بالفعل مع الأزمات المالية خلال نهاية التسعينيات وأكثر حدة مع اندلاع الأزمة المالية العالمية، حينها نزلت أميركا من برجها العالي وسمحت مرغمة، بمعية الدول العظمى الأخرى المكونة لمجموعة الثماني (G8)، بتشكيل مجموعة العشرين في عام 1999 كبديل ''موسع'' اتسع ليشمل اقتصادات صاعدة أضحى لها وزن، وإن كان نسبياً، ضمن المعادلة الاقتصادية العالمية، كان من مهامه الرئيسة (البديل الموسع) تعزيز الاستقرار المالي الدولي، ودعم إطار نمو قوي ومستدام ومتوازن، وتحسين أداء المؤسسات المالية الدولية، وإصلاح آليات عمل صندوق النقد الدولي والمصارف التنموية، ودعم الاقتصادات والأشخاص الأكثر تضرراً، وبحث قضايا الأمن الطاقي والتغيّرات المناخية وتكريس اقتصاد عالمي مفتوح. توافق والتزام منذ الدورة الأولى في عام 1999 ببرلين وحتى 2008 كانت أعمال المجموعة تتم على صعيد وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، لكن الأزمة المالية العالمية فرضت ضرورة أن تعقد هذه الاجتماعات على صعيد القادة لتتخذ قراراتها طابعاً أكثر إلزامية، وتدعم بالتزام سياسي أقوى. ومنذ دورة واشنطن نوفمبر 2008 وحتى دورة سول سبتمبر 2010 عقدت 5 اجتماعات للقادة تعزز خلالها مبدأ ''الإدراك المشترك'' لحجم أضرار الأزمة المالية العالمية وأهمية مواجهتها من منطلق وضع خطة عمل مشتركة، وهو إدراك إن لم يكن قد أوقف نزيف الأزمة إلا أنه ساعد الاقتصاد العالمي على دخول مرحلة تعافٍ قوي خلال عام ,2010 حيث يقدر أن يصل معدل النمو العام الحالي نحو %5 نظير %6,3 عام ,2010 لكن التخوف الحالي يكمن في إمكانية أن يخفت صوت ''التعاون الدولي المشترك'' ليترك المجال أمام صوت ''المقاربات القطرية'' في ظل التباين الكبير بين معدلات النمو من دولة إلى أخرى، ومن تجمع إلى آخر. صعاب وتحديات في ضوء ما سبق سيكون من المبكر جداً أن نقرر ما إذا كان اللاعبون الأساسيون في المشهد الاقتصادي العالمي سيسمحون خلال السنوات المقبلة باستمرار عمل مجموعة العشرين لما بعد ,2014 حيث الانتهاء من العمل بالخطة المشتركة متوسطة المدى، أم أنهم سيهدمون بناءها ليعدوا للانغلاق على أنفسهم ضمن اجتماعات مجموعة الكبار فقط دون غيرها، بعد أن يكونوا قد استرجعوا أنفاسهم واستجمعوا قواهم لتعود كل دولة إلى موقعها الذي كانت تحتله قبل اندلاع الأزمة العالمية صيف .2008 لكن الشيء المؤكد حتى الآن أن الاجتماعات المقبلة لمجموعة العشرين ستصادفها صعاب لا حصر لها، في ظل زيادة حدة تباين المواقف بين الدول المشكلة لها، بعدما تباينت نتائج الوصفة العلاجية التي جرى الاتفاق عليها بشكل جماعي في البدايات الأولى، فأفرزت بشكل غير مباشر أداء اقتصادياً جيداً عند الدول الصاعدة، وأداء مقبولاً لدى الولاياتالمتحدة الأميركية، بينما لا يزال اقتصاد الاتحاد الأوروبي مكبلاً بديون سيادية ضخمة هزمت اليونان، وتكاد تخنق أيرلندا، وتهدد البرتغال وإسبانيا، وتتعقب طريق إيطاليا، وهو وضع مرشح ليستمر العام الحالي وفق توقعات لصندوق النقد الدولي تشير إلى أن اقتصاد أميركا يقدر له أن ينمو ب%6,2 و%3,2 على التوالي 2010 و,2011 واليابان ب%8,2 و%5,,1 ومنطقة اليورو ب%7,1 و%5,,1 بينما ستنمو اقتصادات الدول الصاعدة والنامية ب%1,7 و%4,6 السنة الماضية والسنة الحالية. وشهد شاهد من أهلها يقول صندوق النقد الدولي على لسان أوليفييه بلانشار كبير الاقتصاديين إننا نتوقع استمرار تعافي الاقتصاد العالمي لكن بسرعتين مختلفتين في عام ,2011 مع استمرار نمو ضعيف بالدول المتقدمة، وهو نمو سيكفي بالكاد لخفض البطالة، ونمو سريع بالدول الصاعدة ينطوي على تحديات مواجهة نوبة من النشاط الاقتصادي المحموم والتعامل مع التدفقات الرأسمالية من الخارج. ويضيف: ''لا شك أن مجموعة العشرين اضطلعت بدور محوري في سياق الأزمة، فعندما كانت الأزمة في طورها الحاد وفرت المجموعة المحفل المناسب تماماً لإطلاق الإجراءات القوية والعاجلة، أما الآن وقد أصبحت الأزمة أقل حدة والبلدان تواجه مشكلات تزداد تبايناً فمن الواضح أن التوصل إلى اتفاق بات صعباً.. يمكن أن تحتدم المناقشات كما رأينا في اجتماع سول، في إشارة إلى ما سمي ب ''حرب العملات'' التي تعهدت المجموعة حيالها بضرورة تعزيز مرونة أسعار الصرف لدعم التعافي الاقتصادي. ما قاله أوليفييه بشأن التعافي غير المتوازن وتباين المشكلات نقدر أنه ينذر على الأقل بإمكانية تعطيل أعمال مجموعة العشرين أو انتشار قناعة لدى الكبار بعدم جدواها، ما دامت مشاكلهم قد أصبحت في تصورهم الضيق بعيدة كل البعد عن طموحات الدول الصاعدة، وأن أي إطالة لمدة التعافي ستكون في صالح قوى ناشئة تحدوها رغبة لإزاحة القوى التقليدية، كما هو الشأن بالنسبة للصين التي يقدر لها رقمياً أن تحل محل الولاياتالمتحدة الأميركية كأكبر اقتصاد في العالم بعد 40 سنة، فيما هي الآن تعد ثاني أكبر مصدر، والبرازيل التي تتوق من جانبها إلى أن تصبح خامس قوة اقتصادية في العالم سنة ,2016 ودول الخليج التي تسعى إلى أن تكون عملتها الموحدة المتوقع صدورها واحدة من بين العملات الرئيسة في العالم. فرص النجاح نجاح عمل مجموعة العشرين سيكون مرتهناً بمدى قدرة الدول المشكلة لها في دعم مسارين للحوار: مسار يرتبط بالاستمرار في مناقشة الآليات التي تعين على تأسيس نظام مالي واقتصادي عالمي عادل يقطع مع نظام بينت أسسه في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية ليخدم مصالح المنتصرين، ومسار ثانٍ موازٍ للأول يطرح كما يؤكد ذلك صندوق النقد الدولي ''سياسات بديلة مختلفة''، ربما تصلح لتنقل العالم من النمو غير المتوازن للاقتصادات النامية في السابق والاقتصادات المتقدمة الآن إلى النمو المتوازن الذي يخدم مصلحة الجميع. ونختم بما قاله جون ليبسكي النائب الأول للمدير العام لصندوق النقد الدولي قبل أيام: إن العام الحالي هو عام الحسم في مسيرة التعافي الاقتصادي العالمي وجهود التعاون الدولي. إن القرارات التي صدرت عن قادة المجموعة في سول استشرفت الحاجة إلى تعزيز حوافز التعاون بشأن السياسات، فضلاً عن الحاجة إلى تعديل برامج هذه السياسات للتلاؤم مع الظروف المختلفة في اقتصادات المجموعة. لننتظر، إذن ما ستؤول إليه نتائج اجتماعات المجموعة في فرنسا، والتي ينتظر لها أن تعالج قضايا التضخم وارتفاع أسعار السلع الغذائية عالميا.