قد أفلح من تزكى واستقام طول الطريق والسير إلى الله على بصيرة وهدى يستدعي السير بالقلوب لا سير الأقدام، وإذا أضيف إليه ثقل الحمل اقتضى الأمر زيادة تقوية الظهر حتى يقدر على حمل الثقل. (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) المزمل 5. لقد اختارك الله لهذا الحمل الثقيل وهو في زماننا لأنه زمان القصعة والغثائية والقبض على الجمر. فأسند ظهرك إلى من يقويه حتى تقوى على حمل القول الثقيل، واستعن في ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك...) رواه مسلم. كان ابن تيمية رحمه الله يجلس للذكر فلما سئل في ذلك وقيل له ما تجلس تفعل في هذه المجالس وأنت العالم المجاهد قال: (تلك قومتي ولو تركتها لسقطت قوتي). (وسبح بحمد ربك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) الطور 48 49. إن النفر في سبيل الله خفافا وثقالا هو النتيجة الطبيعية للتزكية. فالنفس الزكية هي نفس تطهرت من حب الدنيا ومتاعها الزائل ونمت وسمت إلى ذروة سنام الإسلام، وأضحت متلهفة مشتاقة إلى جنات الفردوس الأعلى. فاحذر فقد حذرك الفضيل بن عياض حين قال: (ما حليت الجنة لأمة ما حليت لهذه الأمة، ثم لا ترى لها عاشقا)، احذر أن تكون خارج سرب المفلحين في الدنيا والآخرة. فتثقلك الأهواء والشهوات فتخلد إلى الأرض والطين وتنسى أنك إنما خلقت لتعود إلى موطنك الأصلي وهو الجنة التي سكنها أبوك آدم. أفلح من زكى نفسه، فطهرها من أدناس الدنيا ونماها بفعل الطاعات واتباع الكتاب والسنة. وخاب من دساها وأخفى جوانب الخير فيها ولم يخرج للوجود مكنونات الصلاح والبر فيها. أو أخفى نفسه في الصالحين وهو ليس منهم. أو سلك نفسه في سلك الدعاة والصالحين والعلماء والمجاهدين، لا ليكون مجاهدا صالحا مصلحا داعيا عالما، ولكن ليوهم نفسه أنه من الصالحين وصلاحه ضعيف أو منعدم، وليوهم نفسه بالزكاة والطهر وهو إن خلا بنفسه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يذكر الله إلا قليلا. فليست الزكاة بالتمني ولا بالتحلي ولكن هي استقامة الإيمان بالكمال واستقامة اللسان بالصدق واستقامة القلب بحسن التوجه والخشوع، واسأل ربك سؤال المستغيث المستعين وقل كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها). وتذكر أن الله هو صاحب الفضل العميم: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا، ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم) النور12. احذر طول الأمد وقسوة القلب يا من غره طول الأمل. الغرور أيها الداعية بسبب قسوة القلب. فمن غرته صلاته وهو لا يدري كيف صلاها، ومجالسه وجلوسه مع إخوانه وبين إخوانه وقيامه ببعض أمر الدعوة والاجتماع عليها، من غرته أعماله وظن أنه مستغن عن مجاهدة النفس في كل يوم وساعة، وأنه مستغن عن استغفار الأسحار وصيام النهار وتلاوة القرآن زلفا من الليل وأطراف النهار. من فعل ذلك فقد قسى قلبه ولبس عليه إبليس اللعين. قال تعالى: (ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) الحديد 15. لما نزلت الآية قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم بالخشوع فقالوا عند ذلك، خشعنا). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشر سنة من نزول القرآن). إن أهل الكتاب الذين ضرب الله بهم المثل في قسوة القلب، تحذيرا للصحابة الكرام، هم نموذج لقوم اهتدوا بهدي نبيهم ولكن لما طال الأمد عليهم واستدرجهم إبليس وجنده إلى الضلال، سقطوا في قسوة القلب فأصبحوا لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. فاحذر كما حذر الله عز وجل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من طول الأمد وقسوة القلب، وكن مثل المومنين حقا الذين مدحهم الله فقال سبحانه: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون... أولئك هم المومنون حقا..."الأنفاق 2 4. عبد الجليل الجاسني