باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. ... أيها الحضور الكريم أود في البداية أن أعبر لكم عن مدى سعادتي واعتزازي باللقاء بكم، كما أتوجه إليكم بالشكر على تلبيتكم للدعوة للمشاركة في هذه الورشة التي تجمع نخبة من الأطباء جلهم من القطاع الخاص لتناول موضوع استأثر باهتمام مجموع المهنيين، ألا وهو حيازة رأسمال المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها من طرف مستثمرين لاينتمون إلى فئة الأطباء، فهذه المسألة تهم في الصميم دور الاستشفاء الخاص ومستقبله والدور الذي ننتظر أن تضطلع به في المنظومة الصحية للرفع من مستوى عرض العلاج و تيسير الولوج العادل إليه. وحيث إن هذا الموضوع، الذي يشكل في الحقيقة أحد المحاور الأساسية في الإصلاح، قد احتل الصدارة في انشغالاتكم وشكل قطب الرحى في محطات التشاور التي نظمتها الوزارة معكم، فقد ارتأينا تخصيص يوم كامل لتوسيع النقاش بخصوصه، اعتبارا لفضيلة الحوار في تقريب الآراء وتبديد العقبات ورفع الغموض حول بعض النقط التي يعتبرها الأطباء عن حق جوهرية في الموضوع. ودون أن أستبق نقاش اليوم الذي مما لاشك فيه سيكون مفيدا ومثمرا، أستأذنكم في وضع مسح سريع للإطار العام الذي يندرج فيه إصلاح المنظومة القانونية لمزاولة الطب. ... حضرات السيدات والسادة؛ كما تعلمون، يدخل إصلاح المنظومة الصحية في سياق الإصلاحات المهيكلة الكبرى في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تم الشروع فيها ببلادنا منذ النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، والتي عرفت تسريعا ملموسا وحثيثا تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، والتي هي في صلب أولويات البرنامج الحكومي. ففي المجال السياسي نعمل جميعا، مؤسسات ومجتمع مدني، على توطيد المسار الديمقراطي وتكريس دولة الحق والقانون، وتوسيع فضاءات الحرية، وتحديث الدولة والمؤسسات، ولعل الورشة الجديدة للجهوية المتقدمة ما يؤكد هذا الاختيار ويزكيه؛ وفي المجال الاقتصادي وذلك من خلال تبني سياسة الانفتاح، وتحديث الاقتصاد الوطني وربطه بالاقتصاد العالمي والرفع من تنافسية المقاولات، إضافة إلى أوراش كبرى تهم البنيات التحتية، ومخططات طموحة في كل القطاعات الاقتصادية؛ أما في المجال الاجتماعي، والذي يحظى بإرادة سياسية قوية، مما اقتضى اتخاذ إجراءات فعالة في اتجاه تقليص الفوارق الاجتماعية ومحاربة الفقر والإقصاء والهشاشة، ورفع مستوى الرخاء الاجتماعي أساسا بفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي استهدفت الفئات الأكثر فقرا وهشاشة، والتي تم الإعلان عنها في خطاب جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بتاريخ 18 ماي .2005 وبالرجوع إلى المجال الصحي، فقد عرف هذا القطاع، بصفته أحد القطاعات الاجتماعية ذات الأولوية، سلسلة إصلاحات متتالية طبعتها إجراءات مهيكلة سواء على المستوى المؤسساتي أو التنظيمي أو التمويلي أو التدبيري، معززة بترسانة قانونية وتنظيمية مواكبة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يجدر التذكير بالإصلاحات الكبرى التي لها تأثير مباشر على عرض العلاج سواء بالقطاع العام أو الخاص: أولا: إصلاح التمويل المتمثل في الرفع المضطرد للموارد العمومية المخصصة للصحة واستصدار مدونة التغطية الصحية الأساسية، والتدرج الحثيث نحو تعميم هذه التغطية الصحية بشقيها: التأمين الإجباري الأساسي عن المرض و نظام المساعدة الطبية، ووضع الآليات الكفيلة بضمان صيرورة منظومة التمويل التي ترتكز أساسا على الأطباء الذين انخرطوا بكامل المسؤولية في هذا المشروع المجتمعي الضخم الذي أدى فيه الشركاء الاجتماعيون والاقتصاديون دورا رائدا. فلهم جميعا كل عبارات التنويه والشكر. ثانيا: إصلاح المنظومة الصحية ومشروع تنظيم عرض العلاجات، وذلك من خلال الإعداد للخريطة الصحية والتصاميم الجهوية لعرض العلاجات؛ حيث تشكل الجهة الوحدة المناسبة لتخطيط عرض العلاجات وبرمجتها وتكييفها مع الواقع تماشيا مع مضامين مشروع القانون 3409 المتعلق بالمنظومة الصحية وعرض العلاجات، الذي تمت المصادقة عليه من قبل مجلس النواب، والذي هو الآن قيد المدارسة في مجلس المستشارين؛ ثالثا: تفعيل المجلس الوطني الاستشاري للصحة، الذي هو الهيئة المعدة للتعبير عن السياسة الصحية المتوافق عليها مع ممثلي الشعب وكذا مع الفاعلين في المجال الصحي. رابعا: خلق المناخ الملائم لتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتطوير آليات تفعليها سواء مع المهنيين العاملين بالقطاع الخاص أو منظمات المجتمع المدني التي تشهد دينامية وحيوية متميزة، الأمر الذي يؤهلها، لتكون فعلا هيئات وسيطة وشريكة شراكة كاملة مع السلطات العمومية. ... حضرات السيدات و السادة إضافة إلى تلك الإصلاحات المهمة والنقلة النوعية الحداثية والمتعددة الجوانب والمجالات التي تعرفها بلادنا، نسجل تحولا ملحوظا على المستوى الديمغرافي والحضري والوبائي. وقد تضافرت آثار هذا التحول بمستوياته الثلاثة لتزيد من عبء المرض والطلب العام على العلاج، بل ولتزيده تعقيدا وتجعله من التحديات الكبرى التي يواجهها بلدنا. ولعل ما يزيد في تضخم ووقع تلك التحديات ظاهرة العولمة، وما نتج عنها من تحرير للسلع وتكثيف للتبادل ورواج للبضائع والأموال والخدمات والتكنولوجيا والرأسمال، فقد شملت هذه الظاهرة مختلف المجالات بما فيها المجال الصحي، لذلك فإنه وبالإضافة إلى التطور العالمي السريع في المعارف الطبية وتقنيات التشخيص والعلاج والتكنولوجيا الحيوية بصفة عامة، فإن هناك انتشارا سريعا لتلك التطورات والتقنيات، كما أن هناك مدا عولميا في اتجاه المزيد من الوعي الصحي والمزيد من الرفع في الطلب على العلاج، مما جعل المواطنين في مختلف البلدان، بما فيها بلدنا المغرب، يتطلعون باستمرار للتوفر على علاجات حديثة، موزعة توزيعا عادلا وذات جودة وفعالية، الأمر الذي يتطلب تنويع الاستثمارات الصحية والرفع من قيمتها باستمرار. و ستزداد وتيرة ضغط هذه التحديات على منظومتنا الصحية، خاصة في المستشفيات العامة والمصحات الخاصة والمؤسسات المشابهة. لذلك لامناص لنا، لمواجهة مختلف التحديات بصفة عامة والتحديات المرتبطة بضعف التمويل وقلة الإمكانات المادية والبشرية بصفة خاصة، من ابتكار طرق وأساليب جديدة للتمويل ومواصلة سياسة ترشيد وعقلنة تدبير الإمكانات البشرية والمادية، ولا مناص لنا أيضا من بذل الجهود لملاءمة عرض العلاج للتحولات الصحية والتغيرات الوبائية من جهة، واستجابته للمتطلبات الصحية الجديدة ولتطلعات للمواطنين من جهة أخرى في انسجام تام مع السياق العام لسياسة الدولة. ... حضرات السيدات و السادة في إطار هذا المناخ الدولي والوطني، اعتمدت وزارة الصحة في مخطط عملها للفترة الممتدة ما بين ,2012/2008 وبعد تشخيص دقيق لمختلف الاختلالات التي تشوب المنظومة الصحية، اعتمدت مقاربة استشرافية واستباقية من خلال تسطير أهداف وطنية مرقمة ومجدولة في الزمن ووضع التدابير والآليات المناسبة لبلوغها علما أن لازمة هذا المخطط هي ضرورة '' إحداث مصالحة بين المواطن و منظومته الصحية''. و تمر هذه المصالحة، قبل كل شيء، عبر تحقيق الانسجام والتكامل بين القطاعين العام والخاص وتوفير الظروف اللازمة و تطوير الوسائل التكنولوجية و تحديثها لتمكين الأطباء من تقديم خدمات مؤمنة وذات جودة كما وكيفا، مع مراعاة متطلبات الخريطة الصحية والمخططات الجهوية لعرض العلاجات، الشيء الذي يقتضي إصلاحا جريئا للقانون 94 - 10 المتعلق بمزاولة الطب و النصوص المطبقة له. ... حضرات السيدات و السادة كل ما سبق يسمح بتسليط الضوء على الموضوع الذي نجتمع من أجله اليوم ألا وهو تنويع أساليب المساهمة في رأسمال المصحات الخاصة، وضرورة بروز فاعلين جدد في مجال عرض العلاجات. وبالطبع، فإن ظهور فاعلين جدد في مجال عرض العلاج لن يكون عشوائيا وبدون قيد، بل يتطلب تأطيرا محكما بقواعد قانونية دقيقة تتوخى الشفافية وتضع الآليات اللازمة لضمان احترام المبادئ الأساسية التي تحكم مزاولة الطب وتصون الاستقلالية المهنية للطبيب. وهذا بالتأكيد ما نتوخاه من تحيين القانون رقم 1094 المتعلق بمزاولة الطب و النصوص المطبقة له. وبديهي أن الاختيار المقترح ليس موجها ضد أطباء القطاع الخاص أو المؤسسات الصحية التي يمتلكونها، أو ضد ما يعتبرونه مصالحهم الخاصة، لأنه كيفما كان أسلوب حيازة رأسمال هذه المؤسسات، فإن الأطباء كانوا وسيبقون الرأسمال الحقيقي و الثروة الدائمة ونقطة قوة المنظومة الصحية التي تقع على الدولة مسؤولية حمايتها وتوفير جميع الضمانات الضرورية لها على المستوى الأخلاقي والمهني والمادي. و في هذا الصدد، أود أن أطمئن هذه النخبة المميزة من مهنيي الصحة أن لا إصلاح دون التشاور معهم والحوار البناء والمسؤول لإيجاد أرضية توافقية تتماشى مع السياق العام لتوجهات الدولة وتراعي مصالحهم الأخلاقية والاقتصادية المشروعة. من أجل ذلك، ارتأينا تنظيم هذا اليوم المخصص للنقاش الموسع والجدي مع ممثلي الأطباء والاستماع إلى ملاحظاتهم ووجهات نظرهم وتسجيل انتظاراتهم والأخذ بمقترحاتهم البناءة. ولي اليقين أن هذا النقاش سيكون مثمرا وسيكلل بتوصيات عملية مفيدة و قابلة للتطبيق. أشكركم على حسن إصغائكم ووفقنا الله جميعا لبلوغ المستوى الصحي الذي نأمله لبلادنا ولتحقيق أهداف الألفية الثالثة للتنمية تحت الرعاية الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.