حلت أمس ببلدنا وسائر بلاد المسلمين وخصوصا الجناح الغربي منها، ذكرى موقعة وادي المخازن المجيدة، نستحضر تاريخ الرابع من شهر غشت من عام 1578 م لنعود بذاكرتنا إلى تلك الواقعة الخالدة التي سطر فصولها البطولية المغاربة المسلمون بمداد من فخر واعتزاز ورووا أرضها المباركة بدمائهم الزكية دفاعا عن حياض الإسلام وذبا عن شريعة الرحمن وصدا للسلطان المخلوع المستقوي بحملة الصلبان. معركة وادي المخازن التي كانت القاصمة للحملات الصليبية التي ظلت تستهدف عالمنا الإسلامي من ثغوره الغربية بعد فاجعة سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي. لم يكن حافز المغاربة وقتها هو تثبيت حكم عبد الملك السعدي قبالة الخطر الذي كان يشكله ابن أخيه محمد المتوكل المستقوي بالنصارى الطامعين في مقدرات بلاد المغرب والمتربصين بما اعتبروه دوما حائط الصد الإسلامي الأول في وجه مشروعهم التنصيري الذي راود من قبل ملكة إسبانيا إيزابيلا الكاثوليكية التي كانت وراء حملات التطهير الديني البشعة التي تعرض لها المسلمون في شبه الجزيرة الإيبيرية. ولم يكن العدو متمثلا في جيش البرتغال فقط، الذي كان يقوده طاغية لشبونة سيبستيان كما يدرس لنا اليوم، وإنما كان مسنودا بقوات من باقي دول أوروبا، من إسبانيا وألمانيا وإيطاليا...، ولم يتأخر بابا الكاثوليك بروما في إرسال أربعة آلاف مقاتل في ما يرمزإلى مباركة رأس الكنيسة لهذه الحملة الصليبية الخائبة، حتى جاوز تعداد جيوش النصارى مائة وعشرين ألفا. وقتها لم ينتظر علماء المغرب الإذن من أحد ليهبوا لتحريض الناس على الجهاد وإعلامهم بحجم الخطر الداهم الذي بات يتهدد الأمة بسبب هذا العدوان، وكانوا صارمين في ردهم على تبريرات السلطان المخلوع محمد المتوكل لاستنجاده بالنصارى بعد أن عدم النصرة من المسلمين على حد زعمه، ولم يترددوا في الحكم بردة من رضي بموالاة الكافرين وطلب العون منهم لإخضاع المسلمين. ولم نر شيوخ الصوفية وقد انزووا إلى ركن أمين ولا رغبوا بأنفسهم عن إخوانهم المجاهدين، ولا سلموا ببدع المثبطين والمقعدين عن الزحف خفافا وثقالا حماية للدين ونصرة للمستضعفين، وإنما وجدناهم في الصفوف الأمامية لجيش المسلمين. كما لم يكن الوضع السياسي المضطرب الذي كانت تعيش على إيقاعه البلاد مبررا للانشغال بتصفية الحسابات الداخلية على حساب مقاومة العدوان الغاشم، ولا كان مرض السلطان عبد الملك السعدي دافعا لإبرام اتفاق سلام مهين مع المعتدين، ولا كانت عدة وعتاد المهاجمين ناخرة لعزائم المجاهدين، ولا فتنت فتاوى بطانة السوء من علماء السلطان المخلوع عقول المسلمين. لم تكن معركة وادي المخازن موقعة عسكرية عادية، ولا كانت معركة الملوك الثلاث كما يحلو للبعض تسميتها، وإنما كانت معركة المواقف الثلاث، موقف الخيانة والخنوع وهو موقف الحاكم الذي اختار القفز إلى الضفة الأخرى ليصطف بجانب الصليبيين ضد أمته ودينه، وموقف الانتهازية المشبع بثقافة الحقد والكراهية والتي اعتقدت أن الفرصة سانحة لاجتثاث دين طالما قرع أبواب أوروبا من الشرق والغرب، وفي المقابل موقف العز والإباء الذي جسده السلطان الشهيد عبد المالك السعدي رفقة أخيه وخليفته أحمد المنصور الذهبي شعارهم في ذلك قول الإمام الحسين رضي الله عنه ألا إن الدعي بن الدعي قد أراد لنا الذلة، ألا هيهات هيهات من الذلة؛ودون أن تغيب عن أذهانهما مقولة المعتمد بن عباد : لأن أرعى جمال يوسف بن تاشفين خير لي من أن أرعى خنازير الصليبيين. ليس القصد من إحياء مثل هذه المحطات التاريخية نكء الجراح ولا تقليب المواجع ولا استدعاء الأحقاد، وإنما الغرض إعلام القاصي والداني بأن بلادنا ستظل بإذن الله مستعصية على أي عدوان يستهدف بيضتها ودينها وقيمها ووجودها،هذا في الوقت الذي ستظل يدها ممدودة للحوار والتعاون لما فيه خير البشرية جمعاء.