أما بركات الانتصار فآثارها وفوائدها العظيمة فتعم على الأمة جمعاء لتصل إلى المغرب، فتحليل مواقف النصرة المغربية الشعبية والشبابية والحركات الطلابية والجماهيرية التي استماتت في التظاهر وتنظيم الوقفات المساندة والاحتجاجات المتواصلة، يكشف عن مدى عمق التقدم الحاصل على مستوى الوعي الشعبي بالأبعاد الكبرى للحرب الدائرة في المنطقة وبشكل فاجأ الكثيرين بالنظر إلى تصاعد حدة التحركات المغربية واستمرارها وتنوع أشكالها واتساع مداها لتشمل مناطق ومدنا نائية من المغرب، كما أن هناك أثرا آخر لانتصار تموز 2006 بالمغرب، حيث توجد أصوات وقحة تتحدث عن الهرولة وأصوات أوقح تشتم الحركة الإسلامية وتصفها بأقبح النعوت، حيث رأينا من لم يستحي ولبنان تحت النار أن يحمل حزب الله مسؤولية الأرواح التي سقطت ويتهمه بأنه لا يأبه بالدماء، وأنه يتاجر بها إيديولوجيا، فهؤلاء تكون النكاية فيهم أشد وصوتهم أخفض عندما يحصل انتصار، وبالعكس لو أنها حصلت هزيمة ودخل الصهاينة وبدؤوا في التنكيل والإذلال على عادتهم المعروفة لارتفعت هذه الأصوات وبدأت تقول ألم تروا؟ أليس صوت العقل أولى من صوت العاطفة، أليست المزايدة مهلكة، ألسنا أحرص منكم على المصلحة؟ ألسنا ننظر بعيدا؟ أليست إسرائيل أمرا واقعا وقوة لا تقهر؟ أما الأثر الآخر فهو أن المغرب يعاني من اختراق صهيوني، وهذا الاختراق يرفع رأسه ويعلو صوته ويَفْجُر في إعلامه لمظاهر التطبيع السياسي والفني والدبلوماسي والاستخباراتي، كلما حصلت هزيمة أو انكسار على جبهة من الجبهات، ويخفت صوته وينحني رأسه ويدخل في جحر الضب كلما حصل انتصار، لقد أدى انتصار المقاومة إلى آثار دالة على المستوى المغربي تمثلت في إنهاء المشروع الصهيوني بفتح سفارة إسرائيلية في الرباط سميت مكتب اتصال زعموا! خصوصا بعد التراخي الذي سجل في الموقف الرسمي وتعدد اللقاءات الرسمية مع قادة الكيان الصهيوني وتجميد جهود التطبيع غير الرسمي والتي تقوت داخل المغرب، وخاصة في المجالات الإعلامية والسياحية والفنية والاقتصادية، رغم محاولة تأسيس تيار داخل الحركة الثقافية الأمازيغية يناصر التطبيع ويخدم العلاقة مع العدو الصهيوني. والفضل في ذلك يعود للصمود الذي تمت به مواجهة العدوان الصهيوني سواء في لبنان أو في غزة، حيث أدى انتصار المقاومة إلى الإجماع الشعبي على مشروعيتها وازداد التعاطف الشعبي معها، وتقوى استمرار رفض أي تعامل مع الصهانية. أما النتيجة التالية، فكانت تدعيم وحدة الموقف المغربي بمختلف مكوناته، بعد فترة من التوتر والتراجع في برامج مناهضة الحصار والتطبيع والاختراق الصهيوني، مع غياب النظرة الطائفية تجاه مقاومة حزب الله، إذ تشكلت جبهة وحدوية ضمت مختلف التيارات القومية واليسارية والإسلامية حول مشروع المقاومة، وحصل الإجماع على مصداقية المقاومة وشرعية قيادتها السيد حسن نصر الله، الأمر الذي غير المعادلة بشكل كلي وجذري، وشكل عامل ضغط ومواجهة ضد أي نشاط تطبيعي اختراقي للجسم المغربي، باءت معها كل المحاولات الساعية إلى خلق واقع ثقافي تطبيعي جديد يهدف إلى عزل المغرب عن عمقه العربي والإسلامي أو ابتزازه بالفشل، كما أنها تعرضت لضربة قاصمة خصوصا مع التصاعد الذي سجل في التضامن المغربي مع مشروع المقاومة وخطها التحرري الممانع. وإذا كانت الأجيال الجديدة من شباب الأمة الإسلامية اليوم لم تعش معركة التحرير والاستقلال التي ملأت الأجيال قبلهم، نفسيا وثقافيا بمعاني المقاومة والممانعة ومعانقة حلم النهوض، ولم يعيشوا على مستوى القضية المركزية، فلسطين، لا مرحلة النكبة ولا مرحلة النكسة، كما أنها لم تعش أجواء الستينات أيام النفس الثوري النضالي وأيام العقلية الراديكالية، هذه الأجيال التي قهرت بالعولمة وبإعلام الاستسلام وبخطاب خيار السلام وطبعت عقليا وأفقدت الذاكرة ومورس عليها المسخ الثقافي والاستلاب النفسي، فإن مثل هذه المحطات والانتصارات وذكرياتها العابقة بالعزة، ولو أنها نابضة بالدم ونازفة بالجراح، فإنها تحدث لدى الأجيال المُطَبِّعة والُمضَبعَة والمُعَوْلمة ولدى الأجيال التي يراد هزيمتها نفسيا وثقافيا وحضاريا، روحا جديدة تعيد أجواء الستينات وماقبل الستينيات؛ المتمثلة في أجواء النضال والخيارات الراديكالية ضد الأمريكيين والصهاينة.. وتمنحهم فرصة بناء جديد لمعاني الإباء ولقيم المقاومة والهوية ومواجهة التحديات وحلم النهوض وأمل التغيير ممزوجا بطعم الألم وتبرز قدرة هذه الأمّة أن تستولد في كل وقت وسائل صمودها وتصديها. لم يعد الأمل بعد الله تعالى إلا في الشعوب.. وإنني أرجو وأتمنى من هذه الشعوب أن تؤدي دورها في الضغط السياسي.. وفي المواجهة الجماهيرية.. وفي التعبئة النضالية.. وفي مقاطعة البضائع الأمريكية.. وفي مواجهة التطبيع.. وفي إحياء القضية الفلسطينية في العقول والمشاريع والأفكار.. وفي النفوس والعواطف والمشاعر والأحاسيس.. وفي التوريث الاستراتيجي لها مدى الأجيال القادمة.. هم يريدون منا أن ننسى فلسطين ويريدون أن نمحو فلسطين من الذاكرة.. فالمعركة على الذاكرة.. والمعركة على الهوية.. والمعركة على المستقبل.. والمعركة على التاريخ.. من ينتصر هو من يكتب التاريخ.. هكذا علمنا الأقوياء.