التأثير هذه من الصفات العزيزة في زماننا، أضحت الكثير من الخطب التي تلقى هنا وهناك باهتة باردة لا تحرك ساكنا ولا تنبه غافلا، بل إن عددا منها لا يعدو أن يكون فرصة للمستمع لينعم بنومة مريحة بعيدا عن الضجيج، وحتى الذي لم يستطع النوم كم تمنى لو نام! لقد كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم بليغة مؤثرة موقظة، عن العِرْبَاض بن سَارِيَةَ قالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً بَعْدَ صَلاَةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ رُجُلٌ إِنّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدّعٍ! فَبِمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رسُولَ الله؟ قالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله، وَالسّمْعِ وَالطّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌ فَإِنّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلاَفَاً كَثِيراً، وإياكم وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنّهَا ضَلاَلَةٌ. فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْكم بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ المُهْدِيّينَ عَضّوا عَلَيْهَا بالنّوَاجِذِ أخرجه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. إن إحداث أثر متميز لخطبة الداعية وموعظته يرجع بالأساس إلى أمرين اثنين: أولهما:إلى ما ينبغي أن يتحلى به الخطيب الداعية من روحانية شفافة ومن قناعة راسخة بما يدعو إليه، ومن تأثره بما يقول ويبلغ. ففي صحيح مسلم عَنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضيَ الله عَنْهُما قال:كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمَرَّت عَيْناه، وَعَلا صَوْتُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ، حتى كأنهُ مُنذرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبّحَكم وَمَسّاكمْ. وتنبه رواية أحمد على أن هذا التأثر يحصل إذا ذكر صلى الله عليه وسلم الساعة.قال جابر:...وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش.... إنك لن تؤثر في قلوب الآخرين إلا إذا كنت تتحدث من القلبكما قال جوته. أقول أين هذا مما ابتليت به مساجد كثيرة من خطباء لا يجاوز كلامهم حناجرهم، ولا يظهر له أي أثر على جوارحهم وفي ممارساتهم؟! ثانيهما:ما ينبغي أن تزخر به الخطبة من الأصالة والحساسية في حياة الناس. فكلما حدثت الناس بما يمسهم في حياتهم، وكلما اقتنعوا أن ما تدعوهم إليه من صميم ما يفتقرون إليه، كلما كان انتباههم كبيرا، وكلما كان تأثرهم واضحا. فخاطبوا الناس بما يفهمون وبما يمس واقعهم وبما يفتقرون إليه. نعم إذا أردت أن تؤثر في سامعيك وتبقي جمهورك متيقظا، تحدث عن أكثر شيء يهمهم... (كيف تتحدث بثقة أمام الناس ص 50) فالحديث عن آداب العيد ومقتضياته له وقع خاص والناس يستعدون لاستقباله، وكذلك الشأن بالنسبة لرمضان.. كما أن الحديث عن مصيبة الخمر والزنى، مثلا، على إثر حادثة مريعة في واقع المستمعين بسبب هذه الموبقات يخلف أثرا متميزان والحديث عن الوحدة بين المسلمين وضرورة النصرة والتعاون بين المؤمنين مناسب جدا لما تتعرض له بلاد المسلمين من الاعتداء ولما يمس أهلها من الظلم والعدوان. إنه لا بد من تحقيق اندماج حقيقي بين عمل الدعاة إلى الله وبين محيطهم. الدكتور عبد الرحمان بوكيلي