هيمنت حالة من الذعر والصدمة على المحيط الاستخباراتي والحكومي ولدى الرأي العام ليس في العاصمة واشنطن فقط، بل في مختلف أنحاء الولاياتالمتحدة، بعد قيام صحيفة "واشنطن بوست" بالكشف عن نتائج تحقيق استقصائي سري يسلط الضوء على العالم السري والمجهول الذي بات يسيطر ليس على أمريكا فقط، بل على مختلف بقاع العالم، وهو الكشف الذي استبقته مذكرات سرية تحذيرية خرجت من مكاتب مدير وكالة الأمن الوطني وغيرها من المكاتب المعنية لتهدئة روع العاملين في الشركات والإدارات المتعاملة مع هذا العالم الخفي والسري الذي أميط اللثام عن جانب منه، الاثنين الماضي، حيث تضمن أحد خطابات التحذير تعليمات صادرة للعاملين في هذا العالم الاستخباراتي من التحدث للصحافة أو حتى آخرين لأن ما ستنشره الواشنطن بوست لا يعني أن كل أعمالهم وطبيعتها لم تعد سراً أو أصبحت ممارساتهم مكشوفة. هذا الكشف الخطير فجر غضباً وتساؤلات حول آلية هذا الكيان أو السلطة التي نمت وترعرعت في عهد بوش تشيني باستخدام فزاعة مكافحة الارهاب والحفاظ على أمن أمريكا، حيث تم تدشين مئات بل آلاف من شركات التجسس الخاصة التي باتت تنهب المليارات من جيب دافع الضرائب الأمريكي من دون أية ضوابط رقابية، وبقيت أعمالها محمية باستخدام هذه الفزاعة من دون أن يجرؤ أحد على التساؤل، مجرد التساؤل، حول أخلاقية وقانونية هذه الكيانات. تقرير الواشنطن بوست بُدئ نشره، الاثنين 19 يوليوز 2010، وهو في الواقع ليس مجرد تقرير بل تحقيق مكثف وشامل يكفي ما فيه من معلومات لملء كتب ومئات الآلاف من الصفحات، وقد أعده خلال عامين كاملين صحافيان معروفان بالكفاءة، هما: دانا بريست الحاصلة على جائزة بوليتزر وزميلها الصحافي المشاغب وليام أركين الذي طالما عانى الصدام مع إدارة بوش تشيني على مدى ثمانية أعوام، حيث عملا مع فريق عمل تفرغ على مدى العامين الماضيين لبحث موضوع السلطة الرابعة التي خلقت في ظلام عهدي بوش تشيني، وتحولت إلى وحش هلامي لا أحد يعرف بالضبط حدود سلطاته، ولا كيفية إدارته، حيث صحت أمريكا، الاثنين، على هذا الكشف المفزع لتجد نفسها في مواجهة سلطة جديدة أشبه ما تكون بتلك السلطة التي حذر منها الرئيس الأمريكي الأسبق ايزنهاور حين حذر من تنامي نفوذ سلطة مؤسسة السلاح، مع الفارق أن السلطة الجديدة التي اكتشف الأمريكيون وجودها هي سلطة استخبارات تعتمد على القطاع الخاص، أي استخبارات قطاع خاص تمولها من المال العام بلا حسيب أو رقيب، وتمارس عملها عبر قارات العالم، والأخطر أن هذه السلطة الجديدة أساسها الربح المالي. النظر في حجم هذه السلطة الجديدة المتنامي داخل الولاياتالمتحدة فقط، يظهر أرقاماً صادمة، منها: أن مجموع الشركات المتعاملة في نطاق التجسس والمتابعة والتحليل بلغ 2163 موقعاً في الولاياتالمتحدة فقط منتشرة في أنحاء المدن الأمريكية من المحيط للمحيط . يتعامل مع هذه الشركات حوالي 1271 جهة حكومية أمريكية، ومنها وزارات الأمن القومي ال15 ناهيك عن وزارتي الدفاع والخارجية وغيرهما . يوجد ما لا يقل عن 1931 شركة خاصة تتعاطى فقط مع ملفات مكافحة الإرهاب، ولدى هذه الشركات ما لا يقل عن عشرة آلاف موقع في الولاياتالمتحدة فقط . حصل ما لا يقل عن 854 ألف شخص يعملون في نطاق السلطة الاستخباراتية الجديدة على تراخيص أمنية من مستوى فائق السرية وهي رخصة صعب الحصول عليها ولا تمنح إلا للأشخاص ذوي الأهمية المتعاملين والذين يسمح لهم بالاطلاع على أسرار الدولة، وهو رقم غير مسبوق في التاريخ الحكومي الأمريكي . يوجد في العاصمة الأمريكيةواشنطن وضواحيها ما لا يقل عن 33 مجمعاً إدارياً، بعضها لا يزال تحت الإنشاء كمقار لعدد كبير جداً من موظفي السلطة الجديدة، وتمثل إجمالي مساحات هذه المقار مجمع الكونجرس الكابيتول الأمريكي الضخم 22 مرة، وتقريباً مساحة البنتاغون ثلاث مرات بإجمالي 17 مليون قدم مربعة. بلغ تعاظم طبيعة عمل هذا الكيان الجديد، وبالتالي كمية الإنتاج من المعلومات والتحليل والمتابعة، حجماً من المستحيل متابعته أو مراجعته حتى من قبل المعنيين داخلها، مما جعل مهمتها الأساسية في حماية الأمن القومي الأمريكي أمراً شبه مستحيل. وقد استعانت واشنطن بوست بواحد من أمهر الخبراء، وهو الجنرال المتقاعد جون فاينز، للمساعدة على النظر في كيفية مراقبة ومحاسبة هذا البرنامج فكانت إجابته حالة من الذهول الشديد، لا سيما حين نظر في بند واحد وهو كيفية مراقبة مدى تقدم هذا البرنامج من قبل أجهزة وزارة الدفاع، وقال الرجل الذي كان في السابق مسؤولاً عن إدارة 145 ألف جندي أمريكي في العراق، والمعروف بكونه أحد أفضل الخبراء الأمريكيين في معالجة المشكلات المعقدة، لم أعرف مسبقاً أن هناك أي وكالة لديها السلطة أو المسؤولية لتنسيق أعمال كافة هذه الوكالات أو الأنشطة الخاصة، والتعقيدات الموجودة، والحجم الذي أمامي لا يمكن أبداً وصف نتيجته. وفي النهاية رأى الجنرال فاينز أنه من المستحيل أن يجيب أحد في هذا البلد عما إذا كانت أمريكا أصبحت أكثر أمناً، فلا توجد عملية تنسيقية لأعمال هذه الوكالات والأنشطة الخاصة، وبالتالي فإن نتائجها منخفضة الفعالية، وفيها إهدار ولا تستطيع الحكم عليها أو على فاعليتها. وكتبت الصحيفة أنه بسبب الطبيعة الحساسة للموضوع سمح لمسؤولين في الحكومة الأمريكية بالاطلاع على التحقيق قبل نشره وأنه تم سحب بعض المعلومات منه. ولقد كشف بحث البوست عن كم وحجم مرعب من المهام التي يقوم بها الملايين من المتعاقدين، لا سيما عبر الشركات الخاصة. وإذا اختصرنا هذه المهام سنجد أن أهم العمليات والجهات المتضلعة فيها كالآتي: منظمات ووكالات حكومية متعددة (مئات) استخبارات تتولى: مكافحة التجسس عمليات السيبر (التجسس الإلكتروني) التحليل الاستخباري. وكالات عسكرية تتولى: عمليات التجسس بالستلايت (الأقمار الاصطناعية) عمليات برية على الأرض عمليات بحرية عمليات (تتبّع) خاصة بالأنشطة النووية (خارجية). الأمن الوطني. مكافحة عمليات التفجير: الحدود المخدرات تحسب الكوارث عمليات التوقيف القانوني. الإدارات السرية: العمليات الخاصة تكنولوجيا التسلح العمليات النفسية العمليات الخاصة. إدارة الدعم: حماية المباني والحماية الخاصة للمسؤولية والأفراد الوسائل (متابعة وتجسس وملاحقة) استشارات تدريب تعيين التكنولوجيا المعلوماتية. ناهيك عن وكالات ومتعاقدين وشركات خاصة تتولى المراقبة والتسجيل وأعمال التجسس البشري والأعمال الخاصة وغيرها. على أية حال، فإن العديد من الشركات التي كشف عنها لا توفر أحداً، وبالنظر في طبيعة عمل كثير من هذه الشركات، لا سيما شركات الهواتف مثل ايه تي آند تي AT&T وفرايزون، يستطيع المرء أن يتخيل حجم وكم المكالمات الهاتفية وعمليات الاتصال والبريد الإلكتروني داخل أمريكا وخارجها التي يتم تخزينها وترجمتها ومتابعتها، وهنا متوقع أن تثار مجدداً مسألة قانونية وخصوصية التجسس على الأمريكيين داخلياً، وهو الأمر غير الدستوري رغم بعض القرارات التشريعية والقوانين التي استطاعت إدارة بوش تشيني الإفلات بها باستخدام فزاعة حماية أمريكا بعد الحادي عشر من شتنبر. أيضاً من المهم التذكير ببعض التساؤلات المذهلة التي عمت واشنطن، الاثنين، ووصلت إلى حد المطالبة برفع حاجز الرعب المسمى تداعيات الحادي عشر من شتنبر، وقذفت بالكرة في ملعب الساسة في الكونغرس وهم على أعتاب الانتخابات في نونبر، إذ إن سلطة الظلام هذه خلقت ونمت في عهد الجمهوريين. ومن المتوقع أن يحاسب الكونغرس، وتحديداً الجمهوريين على سكوتهم عن مثل هذه الفضيحة التي باتت بلا أدنى مبالغة تمثل وصمة عار كبيرة وأخلاقية على وجه أمريكا التي دأبت على إعلاء احترام حقوق الإنسان والحريات الشخصية بل وتستخدمها ضد شعوب ونظم حول العالم. لقد أصبح من الواضح أنه ليس فقط الأمريكيون أصبحوا عراة تحت نظر حالأخ الأكبرخ، بل العالم كله بلا استثناء.