أفهم أن تبرز الصحف العبرية الموالية لبنيامين نتنياهو قرار الحكومة الإسرائيلية تسهيلدخول السلع إلى غزة، وتصوره بأنه تعبير عن التسامح وسعة الصدر إزاء الفلسطينيين، لكن الذي أستغربه حقا أن يكون هذا القرار هو العنوان الرئيسي (المانشيت) الذي تبرزه الصحف القومية المصرية على صفحتها الأولى. بكلام آخر فنحن في مصر إذا لم نتعامل إعلاميا مع الخبر بحجمه الطبيعي ولم نفضح الحيلة والتلاعب فيه، فمن يقوم بهذه المهمة إذن، ومن يحمي بسطاء الناس من الوقوع ضحية الإفك والتضليل الإسرائيليين؟ لقد قدم الخبر في صحافتنا القومية وكأنه إنجاز تحقق وليس كذبة جديدة، تحتال بها إسرائيل لتحسن صورتها أمام الرأي العام العالمي بعد جريمة الانقضاض والقتل التي ارتكبتها في عرض البحر ضد قافلة الحرية. ذلك أن السماح بإدخال البقدونس أو المربى والبسكويت مثلا إلى غزة لا يغير من حقيقة الجريمة شيئا. ثم إن مثل هذه السلع من التفاهة بحيث لا تستحق أن تذكر. والتعامل المهني والسياسي المسئول يقتضي فضح الجريمة وليس إبرازها. وقافلة الحرية التي قصدت غزة، والدماء التي سالت على ظهر السفينة أنقرة والتعبئة الكبيرة التي أحاطت بالرحلة، كانت تستهدف التأكيد على ضرورة كسر الحصار، وليس السماح بإدخال بعض المعلبات إلى القطاع. حين وجدت أن الخبر يستحق إدانة ونقدا وليس إبرازا، ولم أجد له مضمونا ذا قيمة يفرضه على رأس الصفحة الأولى، وهو مما لا يفوت أي صحفي مبتدئ، فإنني أعدت قراءته مرة أخرى، وحينئذ أدركت سر إبراز الخبر. إذ كان العنوان التالي مباشرة تحت أكذوبة الموافقة على تسهيل دخول السلع كالتالي: مبارك يؤكد (على) ضرورة رفع الحصار وإنهاء معاناة القطاع. وفي التفاصيل المذكورة أن الرئيس مبارك تلقى اتصالا هاتفيا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تطرق خلاله للإجراءات التي اعتمدتها حكومته لتخفيف الحصار على غزة، استجابة لما طلبه منه السيد الرئيس في لقائهما الأخير بشرم الشيخ في شهر مايو الماضي (الأهرام 18/6). أدركت من هذه الإشارة إلى أن الخبر الحقيقي عند محرر الأهرام ليس تسهيل دخول السلع إلى غزة، ولكنه اتصال نتنياهو مع الرئيس مبارك، ولفت الانتباه إلى أن قرار الحكومة الإسرائيلية جاء استجابة لمطلب تقدم به إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي حين التقيا في شهر مايو الماضي، قبل تحرك قافلة الحرية من الموانئ الأوروبية. لقد حرص الأهرام على الإيحاء بأن تخفيف الحصار كان استجابة لطلب الرئيس مبارك، بما يعني أن خروج قافلة الحرية والشهداء الذين سقطوا وهم في الطريق إلى غزة، والضجة العالمية التي حدثت بسبب القافلة. ذلك كله لم يكن له أي تأثير على دفع الحكومة الإسرائيلية إلى اتخاذ تلك الخطوة (هذه الخلفية تجاهلها الخبر المنشور ولم يأت لها على أي ذكر). في ذات الوقت لاحظت أن العنوان تحدث عن تأكيد مبارك على ضرورة رفع الحصار وإنهاء معاناة قطاع غزة، وهو ما جعل الأمر يلتبس على، إذ لم أفهم لماذا تحدث العنوان عن مطالبة مبارك بضرورة رفع الحصار وإنهاء معاناة القطاع، في حين أن المتن ذكر صراحة أن الرئيس طلب من نتنياهو في شهر مايو أن يخفف الحصار فقط حتى قلت إنه إذا كان للرئيس ذلك +الخاطر؛ لدى حكومة نتنياهو الذي يجعلها تستجيب لرغباته فلماذا لم يطلب منهم رفع الحصار بدلا من تخفيف سقف الطلبات وقصر الحديث على تخفيفه؟ لقد امتدحت واشنطن القرار الإسرائيلي، ورحب به السيد توني بلير مبعوث الرباعية إلى الشرق الأوسط، قائلا إنه خطوة مهمة، أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس والدكتور صائب عريقات كبير المفوضين فقد رفعا السقف عاليا في التصريحات الصحفية المنشورة، وطالبا برفع شامل للحصار، لكنهما لم يعقبا على فكرة تخفيف الحصار، ولم يربطا بين تحقيق مطلب رفع الحصار الشامل وبين بدء المفاوضات غير المباشرة، وهو المؤشر الوحيد الدال على جدية طلب الرفع، كأنما أرادا أن يسجلا موقفا عالي السقف في وسائل الإعلام في حين لم يعترضا على التخفيف الذي لا يغير شيئا يذكر في قطاع غزة. ما الذي يعنيه كل ذلك؟.. رأيي أن الكلام تحت الطاولة ليس مختلفا على إبقاء الحصار حتى تستسلم غزة. وتسقط حكومة حماس، وهو مطلب كل الأطراف. أما الكلام فوق الطاولة فهو يطلق الدعوة بصوت عال للمطالبة بإلغاء الحصار. والكلام الأول متفق عليه بين اللاعبين على المسرح، أما الثاني فهو موجه إلى جمهور المتفرجين، الذين هم نحن وهذا للعلم فقط.