استعاد عدد من مداخلات الحفل التأبيني لأربعينية المفكر المغربي عابد الجابري ما يشبه وصيته القائمة على فكرة الكتلة التاريخية كفكرة ملهمة لمسار من الفعل لأجل الإصلاح والنهضة ببلادنا، لكنها قبل ذلك وبعده أحد السمات التي ميزت تعاطي الحركة الفكرية المغربية مع القضايا المطروحة، حيث كان النزوع إلى تجميع كافة الأطراف والحرص على التقائها واستيعاب مواقفها من سمات التميز المغربي في المنطقة. نتوقف هنا عند قضية الموقف الغالب من الحركات الإسلامية في حالات بلدان عديدة، حيث تمثل في اعتبارها حالة نشاز وطارئة تعبر عن وضع مرضي لا يمكن علاجه إلا بالاستئصال، مما كانت نتائجه كارثية على الاستقرار الاجتماعي والوحدة الوطنية والأمن العام. لكن في الحالة المغربية نجد العكس، ذلك أن الموقف الغالب منها ارتكز على الإدماج واعتبارهم فاعلا له مشروعيته، وهو موقف لم يرتبط فقط بالحكم، بل امتد ليشمل قطاعات معتبرة من النخب السياسية والثقافية والاجتماعية في البلد، وهو ما وجد سنده، وبعد ذلك صداه في فكرة الكتلة التاريخية التي كان المفكر الجابري من أبرز دعاتها في مرحلة تاريخية دقيقة مر بها المغرب في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وكان مطالبا فيها أن يؤهل ذاته لمواجهة التحولات العميقة الجارية في محيطه الخارجي وبنيته الداخلية، وخاصة منها الاستجابة للتهديدات المتنامية للوحدة الوطنية وتعاظم الاستهداف الخارجي للمنطقة بعد حرب الخليج الثانية وانطلاق مسار مدريد لتسوية القضية الفلسطينية، وما تلاه من مسلسل أوسلو، فضلا عن تحديات الديموقراطية والتنمية بالداخل، وهي تحولات دعت إلى استلهام الخبرة الحضارية المغربية في مثل تلك اللحظات، وعلى رأسها تنادى الجميع للالتقاء في إطار كتلة تؤهل المغرب لمواجهة تحديات اللحظة التاريخية. لا تختلف اللحظة الراهنة عن اللحظة التي ولدت فيها فكرة الكتلة التاريخية، مما يكسب الدعوة من جديد إلى إحيائها راهنية وملحاحية، ولاسيما مع تضاعف حدة التهديدات المستهدفة للمغرب ثقافيا واجتماعيا وقيميا واقتصاديا وسياسيا، تضع المغرب في مواجهة مخاطر التفكك والتحجيم والتهميش. لقد كشفت المسيرة التاريخية للشعب المغربي نهاية الأسبوع الماضي عن أرضية خصبة لإطلاق مشروع كتلة تاريخية جديدة، حيث التقت القوى السياسية والثقافية والاجتماعية للمغرب على قاعدة نصرة الشعب الفلسطيني والالتحام بالحركة الإنسانية العالمية المناهضة لحصار غزة، وذلك بشكل فاجأ الكثيرين، وكشف عن القابليات المتوفرة للانطلاق بذلك المشروع بالرغم من العوائق الوازنة والموجودة، والتي بدون التفكير في كيفية مواجهتها والحد منها فإن الكتلة التاريخية ستبقى مشروعا حالما ومثاليا. إن المطلوب اليوم هو تعميق ثقافة الحوار والاجتماع بين مختلف الأطراف لمناقشة قضايا الراهن المغربي ونبذ ثقافة الإقصاء والتأسيس الثقافي والتربوي لثقافة الكتلة التاريخية، والتي بدونها فإن المغرب سيبقى في حالة مرواحة مع تقدم في مجالات وتراجع في أخرى.