تتأسس أطروحتنا السياسية على أصل سياسي جامع هو: أن الأصل هو المجتمع، والدولة إجراء لاحق لتنظيم الاجتماع السياسي للمجتمع، وبالتالي فالدولة في الأصل هي دولة المجتمع (لا مجتمع الدولة). ودولة المجتمع بنظرنا دولة ترعى مصالحه وتلبي حاجاته المشروعة وتكفل حقوقه وحرياته وتحترم إرادته واختياراته وهويته الجامعة . وهنا يكمن دور و وظيفة الحزب السياسي لأنه لا يستقيم، في رؤيتنا السياسية، أمر الحزب السياسي إلا إذا كان منتهى عمله ونضاله أن يجعل من الدولة دولة المجتمع. وبمقتضى هذه المقاربة، يستوجب الحزب السياسي استيفاء شرطين وركنين: أما الشرطان فهما الاستقلالية عن السلطة والتعاقد مع المجتمع. فلا معنى للحزب السياسي إذا لم يكن معبرا أمينا عن المجتمع، وهذا ليس معناه تجاهل إكراهات الدولة. ولا معنى لحزب سياسي يتلقى التعليمات من الدولة بدل أن يتلقى الاحتياجات الشعبية والأسئلة المجتمعية ليحولها إلى برامج سياسية. أما الأركان فهي المعرفة والأخلاق: السياسة التي نريد اليوم هي سياسية مبنية على المعرفة والأخلاق. فلا سياسة بدون معرفة ولا سياسة بدون أخلاق. المستوى الثاني: يتعلق برؤيتنا الإصلاحية اخترنا لتحقيق مجموع الأهداف التي نتطلع إليها هوية استراتيجية علنية، سلمية ومدنية تؤكد على قوة الحجة لا على حجة القوة، واقعية ومبدئية، مستقلة ومنفتحة، ديمقراطية وإيجابية ترفض خطاب التيئيس وشعارها أن نشعل شمعة خير من أن نستمر في لعن الظلام. وهنا لابد من الوقوف عند أربعة موجهات أساسية في رؤيتنا الإصلاحية: الأول: الاستقلالية في المنطلقات والآفاق، فلسنا امتدادا تنظيميا لأية جهة ونرفض أن نكون أداة في خدمة مشاريع الآخرين، ونسعى لحل مشاكل البلاد. الثاني: لسنا معارضة مطلقة وعدمية، فنحن ندور مع المصلحة الشرعية والوطنية حيث دارت، ولن نتردد في مساندة أي مبادرة نقدر أنها خيرة مهما كان مصدرها، ولن نتوانى في مناهضة كل مبادرة نقدر أنها مضرة أيا كان أصحابها. وفي كلتا الحالتين، فنحن ملتزمون بالتدبير السلمي والمدني والديمقراطي للاختلاف في كافة تمظهراته. الثالث: إننا مفتوحون ومنفتحون: مفتوحون أمام كل الفعاليات والتنظيمات ومنفتحون على التطوير والإغناء والتجدد. الرابع: الإيجابية بحيث لا نجد أنفسنا في الأطروحات المغالية إن في التفاؤل أو التشاؤم، ونرى أن بلادنا بحاجة إلى خطاب سياسي جديد يكون صادقا أولا، ويعيد قراءة الواقع تثمينا لإيجابياته ودفعا لسلبياته ثانيا، أي خطاب يقوم على بعث الأمل في الإصلاح والتصحيح والتغيير بدل نشر ثقافة اليأس والإحباط، كما انها بحاجة إلى إرادة صادقة غير مستعدة للتطبيع مع الاستبداد والفساد والتخلف. ويشهد تاريخ نشاطنا الحركي (الحركة من أجل الأمة) والحزبي (حزب الأمة) أن مواقفنا كانت وسطية مبنية على العلم والعدل: العلم في فهم النوازل والعدل في الحكم عليها. وهكذا، لم نجد أي حرج في التنويه بكل الإجراءات السياسية والحقوقية الإيجابية التي أقدمت عليها السلطة السياسية بالمغرب، كما لم تمنعنا وسطيتنا من رفض كل الإجراءات السياسية والحقوقية السلبية، واعتبرنا أنه من تمام وسطيتنا الجهر بما نؤمن به. ولم نقف مكتوفي الأيدي ولم نركن إلى الصمت إزاء عزوف المغاربة عن العملية السياسية والانتخابية، وساهمنا بشكل جوهري في تأسيس حزب الأمة إيمانا منا بأنه لن يتأتى أي تطور نوعي في حياتنا العامة إذا ظل المغاربة عازفين وغير عابئين بتدبير الشأن العام وتداعياته على الأوضاع العامة بالبلاد. ومن جانب آخر لم نتردد في نبذ العنف ورفض كل أشكال الغلو والتطرف أيا كانت تمظهراته وأشكاله لا لكون ذلك يهدد مكتسبات الإصلاح فقط، بل لأن العنف والغلو والتطرف أمور يرفضها ديننا الإسلامي الحنيف ولا يجوز تبريرها تحت أي مسوغ كان. ولم نتوقف عند هذا الحد بل ساهمنا في بسط المعرفة الوسطية وفي تقديم حلول للوقاية من مخاطر تلك الآفات وعلاجها، ومن ذلك تحديد نواظم التكليف الوسطي وهي أربعة: .1لا تكليف بمجهول، فلا تكليف مع الجهل، والغلو والتطرف تكليف بدون علم لأنه لا تطرف ولا غلو مع العلم. .2لا تكليف إلا بوضع، أي لا تكليف إلا بوعي السياق لأنه لا تطرف ولا غلو مع الوعي. .3لا تكليف إلا بمناط منفتح ومحقق: إذا كانت العلة هي مناط الحكم، فإن تحقيق المناط هو تحقيق العلة في الفرع أما تنقيح المناط فهو تهذيب العلة وتصفيتها بإلغاء ما لا يصلح للتعليل واعتبار الصالح له كما يقول الأصوليون. وهذا فقه هام ولكنه عزيز إلا على من وفقه الله تعالى إليه. إن الأحكام تجري على مناطاتها (أي على عللها) وإذا تقرر الحكم الشرعي وجب تعيين مناطه. وفي هذا الباب يبرز للأسف سوء التعامل مع الأدلة الشرعية وسوء تنزيلها وهو علامة على ضعف البضاعة العلمية والفقهية.ومن هذا الباب أيضا انبرى التشدد واستوى. قال سفيان الثوري رحمه الله: إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد، ومن ذلك التشدد في الفروع والتعسير فيها.. من هنا كانت الحاجة ماسة إلى فقه تحقيق المناط وتنقيحه في تحديد التكليف الوسطي. .4لا تكليف إلا بمقدور، لأن التكليف بغير مقدور تكليف بالمحال. وعليه كان الغلو والتطرف تكليفا بالمحال. وعلى قاعدة هذه النواظم الأربعة، سعينا إلى: ترسيخ العلم المطلوب في التكليف ومنه كل أنواع الفقه المحصنة ضد الغلو والتطرف ومن ذلك فقه الأولويات والمآلات وفقه القواعد الفقهية والأصولية الجامعة. تعميق الفهم الواعي بالواقع وتحدياته وبأسئلته ترسيخ منهج التدرج والمرحلية في التكاليف المرتبطة بواجب الإصلاح ومن ذلك ترسيخ ثقافة الصبر وطول النفس وعدم استعجال ثمرات الإصلاح لأن الإصلاح صيرورة تراكمية ولا يحصل جملة واحدة. ومن إسهاماتنا المعرفية الوسطية بسط أدب الاختلاف وترشيد الموقف من المخالف وترسيخ مبدأ التعاون على الخير مع الغير، وكذا خيار التحالف مع المخالف مرجعية أو اجتهادا بما يخدم عملية الإصلاح إلى غير ذلك. أما في النظر إلى الغرب والحضارات الأخرى فقد تبنينا ثلاثة موجهات أساسية: موجه التعارف بين الأمم موجه الحوار الحضاري موجه تبادل المعروف وكل هذا انطلاقا من قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات/.13 .2 في الجرائم المفترضة: هل الجرائم المفترضة ثابتة؟ تنص المادة 2 من ق.م.ج على أنه : يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات والحق في إقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي تسببت فيه الجريمة. السيد الرئيس المحترم السادة المستشارون المحترمون: يجيب منطوق هذه المادة من ق.م.ج عن سؤال: متى تقام الدعوى العمومية والدعوى المدنية؟ إذن، الأصل في المادة الجنائية وقوع الجريمة أو الجرائم ثم يكون بعدها: إما اعتقال المشتبه به (أو بهم) في حالة تلبس (كما تحددها المادة 56 من ق.م.ج) وإما اعتقاله (أو اعتقالهم) بعد إجراء البحث والتحريات وفق مقتضيات القانون وجمع الأدلة القانونية التي تربط المتهم (أو المتهمين) بالجريمة (أو الجرائم). في هذه القضية، كان الاعتقال (والأصح الاختطاف) هو الأول ثم تناسلت بعد ذلك الجرائم المفترضة. وهذا مخالف لمنهجية المتابعة الجنائية. قد يقول لنا قائل، إن الأمر يتعلق بوقائع (أي جرائم) قديمة وأن هناك مساطر جزئية. ولدحض هذا الادعاء نقول: .1هناك غموض في منشأ هذه النازلة. والوثائق المضمنة بملف القضية لا تقدم لنا أية إجابة بهذا الخصوص. الملاحظ أن هذه القضية برزت بدون مقدمات، فلم يكن انكشافها نتيجة عملية إرهابية وقعت أو يتم الإعداد لها كما هو المفترض في مثل هذه القضايا. ولكن المعلوم اليوم هو أن إدارة مراقبة التراب الوطني هي من قام بالجوانب الإعدادية لهذا الترتيب فيما تكلفت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بتجهيز الملف من أجل المتابعة القضائية. هذا لغز كبير في هذا الملف، ومهما يكن فسيأتي اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز أو بعيد. .2يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من المساطر الجزئية في هذه القضية: أ. هناك مسطرة جزئية مضمنة بملف القضية ويتعلق الأمر بواقعة الاعتداء على مواطن مغربي. وقيمة هذه المسطرة الجزئية تكمن في توظيف نتائجها واستخلاصاتها وإلا فلا قيمة لها وبالتالي يتوجب الغاؤها وسحبها من ملف القضية. هذه المسطرة الجزئية تتحدث عن شهود عاينوا الواقعة وقدموا معلومات دقيقة حول المشتبه بهم، وهنا قيمتها في خدمة الحقيقة وبيانها وإلا وجب سحبها من ملف القضية. ب. وهناك وقائع بلا مساطر جزئية، وهذا يطرح سؤال جدوى الدعوى العمومية في غياب الطرف المتضرر، بحيث لا يوجد ضمن وثائق ملف القضية أية شكاية أو ما يدل على إقامة دعوى مدنية من طرفه. وفي هذه الحالة، ألا يتعلق الأمر بوقائع مختلقة بما يخدم أطروحة التضخيم والتهويل؟ ج. وهناك اخيرا واقعة ولكن مسطرتها الجزئية مضمنة بملف قضية أخرى وصدر بخصوصها حكم قضائي، ويتعلق الأمر بما سمي بواقعة ماكرو فيما سمي بقضية أطلس أسني. وهذا يطرح سؤال الامتناع والاستحالة، إذ كيف نتابع أشخاصا بواقعة سبق للقضاء أن أصدر فيها حكمه بحق أشخاص آخرين يقضون الآن عقوبتهم السجنية منذ ما يفوق 14 سنة(!) وتمثل هذه الواقعة الممتنعة فضيحة هذا الملف. الخلاصة إذن، هي أنه باستثناء محاولة الاعتداء المفترض على مواطن مغربي التي تستند إلى مسطرة جزئية، فإن باقي الوقائع بدون مساطر جزئية مرجعية، ومعناه: إما أنها وقعت ونسبت إلى جهة ما مثل ما سمي بواقعة ماكرو، وبالتالي نحن أمام واقعة يمتنع ويستحيل متابعتنا بها. أو أنها لم تقع أصلا أي أنها مختلقة وهو ما نذهب إليه وخاصة أنه لا يوجد ضمن وثائق ملف ما يفيد وجود متضرر تقدم بشكاية أو بدعوى مدنية. أو أنها حصلت ولم يعثروا على الجناة، وهذه القضية فرصة مواتية لتصريفها بهدف تضخيم الملف وتحيين مؤشرات اداء الشرطة القضائية( !) ما دامت هذه عاجزة عن إيجاد الرابط بين الجريمة المفترضة والمتهم المفترض. ومجموع هذه التخمينات يؤدي إلى نتيجة واحدة هي أن هذه الجرائم تحتمل الوقوع كما تحتمل عدم الوقوع ، والحال انه لا حجة مع الاحتمال. هذا وإنه باعتماد النيابة العامة على جرائم ظنية محتملة أو ممتنعة ومستحيلة أو مختلقة، إنما تكون قد اعتمدت وقائع جرائم مفترضة تحققت فيها مواصفات الشك واليقين لا يزال بالشك كما تقول القاعدة الفقهية القانونية. ومن يتابع تطبيق مبدأ قرينة البراءة يعرف ان الأحكام في المادة الجنائية يجب ان تبنى على حجج قطعية الثبوت تفيد الجزم واليقين لا مجرد الظن والاحتمال، وهذا هو مضمون المادة 1 من ق.م.ج التي تؤكد على أن كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونيا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضى به بناء على محاكمة عادلة تتوافر فيها كل الضمانات القانونية. يفسر الشك لفائدة المتهم. السيد الرئيس المحترم السادة المستشارون المحترمون إن الوقائع لوحدها لا تقوم مقام الدليل والحجة فهي مظنة الظن لا العلم والظن لا يغني من الحق والحقيقة شيئا.