تثير في أغنية ناس الغيوان (سبحان الله صيفنا ولى شتوة) شعورا خاصا، فهي تذكرني أولا بمرحلة تاريخية قاتمة من تاريخ هذا الوطن المغبون، شأنها شأن أغنية(ما هموني غير الرجال إلى ضاعوا)، وتذكرني بمرحلة عمرية مثلت بداية انخراطي في معانقة هموم الأمة والوطن. كانت صرخة الغيوان المنبعثة من افلحي المحمدي، حيث يلتقط الوجدان عن قرب أنات المظلومين والتعساء سواء من درب مولاي الشريف أو خلف براريك كريان سنطرال، كانت تلك الصرخة تذكي في كثير من الشباب الرغبة في فعل أي شيء من اجل إيقاف زحف الرداءة والجور والطغيان، كان المدخل الجمالي بوابة انخراط كثير منا في زمن الفعل والمشاركة الإيجابية، وأذكر حينها توالي تشكيل المجموعات الغنائية التي اقتنع كثير من أفرادها بأن للكلمة وقعا وأثرا قد يكون أبلغ وأشد إيلاما من أي سلاح آخر، وقفت على ذلك من خلال كتابتي لكثير من النصوص الزجلية لإحدى المجموعات التي ارتبط ظهورها بالموجة الغيوانية، إذ تركت إحدى تلك الأغاني صدى معينا دفع بأستاذي أن يردد أمامنا في اليوم الموالي لحضوره حفل تلك المجموعة بعض كلمات الأغنية مبديا استحسانه وإعجابه دون أن يعلم أنني من كتب النص، والصدى نفسه دفع جهة معينة نظمت حفلا نشطته المجموعة إياها إلى أن تطلب من المجموعة عدم أداء تلك الأغنية أو حذف مقاطع منها حتى لا تحرج أمام ممثلي السلطة. كان هناك شعور غامر جميل ينتاب الجميع يؤججه الإحساس بأننا نسهم منى موقعنا في إذكاء الوح النضالية لدى شريحة عريضة من أبناء هذا الشعب، وتصعيد حالة الرفض في الوجدان الجماعي لكل مظاهر الإذلال والظلم والقبح والرداءة... والأجمل في هذا الشعور أنه لم يكن مؤطرا، أي أنه لم يكن له انتماء أو لون سياسي معين، فيمحي بامحاء الحزب، أو يقوى ويتجذر بحضور ذلك الحزب أو الطيف السياسي. فناس الغيوان و جيل جيلالة و لمشاهب وغيرهم من المجموعات التي لم يكتب لها أن يطير صيتها ويذيع، جزء من حالة اجتماعية رافضة ثائرة، غنت للإنسان المظلوم كيفما كان لونه أو جنسه أو دينه، وغنت للمغاربة المقهورين الذين طحنوا بين مطرقة الحداد وسندانه وغلظته( قلبي جا بين يد الحداد، الحداد ما يحن، ما يشفق عليه. ينزل ضربة على الضربة، وإلى برد، زاد النار عليه). فلم يتخندق فعلها الجمالي ضمن إطار حزبي معين، رغم حرص الكثيرين ممن درجوا على نسبة المكارم لغير أهلها على ربط الغيوان باليسار وبالفكر الاشتراكي، وهو ما تفنده سير أفراد جل المجموعات،، وتفنده أغانيها التي لم تصادم قط فطرة الشعب ودينه، فالذين غنوا(مزين مديحك يارسول الله)هم الذين غنوا (فين غادي بيا أخويا)، والذين غنوا(لكلام لمرصع) هم الذين غنوا أيضا(يا لطف الله الخفي) وقس على ذلك. لذلك تفاعل المغاربة كلهم مع أغاني الغيوان ووجدوا في كلماتها وإيقاعاتها الشعبية الأصيلة ومواويل استهلالاتها ذات الطعم الفجائعي المذكر بمرارة الواقع، وجدوا في كل ذلك دعما جماليا فنيا عبأ قوى الممانعة في الذات وحرضها على الاستمرار والصمود، في زمن شيء فيه لكل المغاربة أن يصمتوا ويعيشوا حياتهم في رعب وخوف، ثم لو كانت أغنية الثورة والرفض بنت اليسار أو ربيبة هذا التيار أوذاك فلماذا لم يتم التمكين لخطها الرائع الجميل إبان فترة استوزاره، وأطلق العنان بدل ذلك لسيل الرداءة والصخب والزعيق والتفاهة يكتسح المشهد الفني بالوطن؟ لماذا لم يتهيأ للفن الملتزم أن يعرف في زمن التناوب حضورا قويا يعيد له دوره ووهجه القديمين، ويمسح عن جبينه شقوة سنوات التضييق والحصار والجمر والرصاص...؟ ألا نشهد اليوم دفاع البعض المستميت عن الرداءة وأغاني هز البطن والردف وتمكينهم بشتى الوسائل والسبل للأغنية التي تمولها الكوكاكولا والماكدونالد، في زمن صرنا أحوج فيه من أي وقت مضى لأكثر من ناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب والسهام..؟ لقد أحببنا الغيوان، وتسقطنا جديدهم، بل حولنا في زمن القهر أفراد المجموعة إلى أبطال تراجيديين وأضفينا عليهم ما أضفته الذاكرة الشعبية العربية في أزمنة تراجعها وقهرها، على شخصيات عنترة وسيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي من ملامح لامست الأفق الأسطوري في كثير من الأحيان. أحببناهم لأنهم مثلوا وسيلتنا الجمالية الفنية المقاومة لكل أشكال الاختراق والتضييق التي مارستها الدوائر الرسمية آنذاك، أو سعت قوى الاستكبار العالمي إلى تمريرها عبر موجات متنوعة من الفن المفتون المستنجد بالتراث الشعبي أو المنفتح على الخنافس والبونيم و.. لقد أحببناهم بصدق وقاومنا من خلالهم كل أشكال الزيف والرداءة التي حرصت دوائر كثيرة حينها على جر الذوق العام نحوها. قد نكون طوباويين وحالمين، هذا ممكن لكننا لايمكن أبدا وتحت أي إغراء أو ضغط أن نوزع ذاتنا إلى ذاتين؛ واحدة تدعي وصلا بفن يمنحنا قدرة على الاستمرار في الممانعة وأخرى تحاصر كل فن يهذب الذوق ويقوي مناعتنا الحضارية أمام قوة قادرة على اختراقنا بفجاجة وقبح، وتخاصر إليسا وعجرم وكل ما يؤجج الشهوة.