يعد مولاي الطاهر الأصبهاني من بين الأعمدة الأساسية لمجموعة جيل جيلالة، بل من أعمدة المجموعات الغنائية ككل، صوته أطرب الكثيرين، منهم مسؤولون في الدولة، بل أكثر من هذا كان قد أثنى عليه العندليب الأسمر في أواخر السبعينات، عندما كان في زيارة للمغرب ودعاه أحد المسؤولين إلى حفل ستحييه فرقة جيل جيلالة، أدت خلالها أغنية «ليغارة»، ولأن الأغنية استهوته كثيرا صعد العنديب الأسمر إلى الخشبة، وأخذ البندير في يده وبدأ يغني مع المجموعة، وبعد انتهائها سيمسك العندليب بيد مولاي (كما يناديه المقربون منه) ويعلن في الحضور بأن صوته من أجمل ما سمع في حياته. شكل صوت مولاي الطاهر الأصبهاني رنة خاصة في أذان الأجيال، حتى أن الشباب الذي يقلد المجموعة غالبا ما يقلدون صوته، الذي أسكن في أذهان المتلقين- بمعية أصوات الدرهم والطاهري وعبد الكريم وسكينة والسعدي- فن الملحون وجعله فنا مشاعا لدى الشباب الذي كان يستثقل الطريقة التي يؤدى بها من طرف شيوخه. في هذه السلسلة سنسافر مع الأصبهاني وسط قلعة جيل جيلالة لنطلع على أسرارها ومسارها. حين ظهرت جيل جيلالة في سنة 1972، كثر الحديث عن علاقتها بناس الغيوان وفُتح باب التأويل والتحليل على مصراعيه، هناك من ذهب به التفكير إلى أن هذه الفرقة خرجت للوجود لمنافسة ناس الغيوان التي كانت في أوجها وتمردت على المحيطين بأبيها الروحي، الذي كان أعضاء «ناس الغيوان » تلامذة في مسرحه، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك واعتبر ان جيل جيلالة هي صناعة مخزنية محضة الهدف من تأسيسها التشويش على تجربة الغيوان، باعتبار أن هذه الأخيرة فرقة «ثورية» أرادت قول شيء وهناك من لايرضيه توجهها! فهل فعلا يعد كلام الغيوان الذي ظهرت به في الوهلة الأولى ثوريا؟! أدت هذه المجموعة عند ظهورها أغاني: الصينية وقطتي صغيرة والله يا مولانا، وكولو ليامنا تاتيني... أي أنها اعتمدت كلاما صوفيا لكنه رائع المعنى، وكانت «ثورة» الفرقة تتجسد في «التمرد» على النمط الغنائي السائد المستوحى من الشرق العربي، واستعمالها لايقاعات من عمق التراث المغربي ، وهو الذي هز الجميع. تتضارب الآراء حول هذه النقطة، لكن كلما نوقش هذا الموضوع مع مهتم تجد أنه لا يحفظ كلمات أغاني الغيوان عن ظهر قلب ولا حتى جيل جيلالة، فقط يردد شذرات ، وغالبا يرددها خاطئة لفظا ولحنا وحتى على المستوى الدلالي ، الذي غالبا ما يطبعه التكلف! وأتحدث دائما عن الاغاني الأولى لناس الغيوان... إذن كيف ستوظف جهة ما المجموعة الوليدة بهدف التضييق على الأولى ، ومن ثم التشويش على صورة البداية الأولى؟! يحكي مولاي الطاهر بأن تأسيس المجموعة لم يكن مدروسا، فقد اتصل به حميد الزوغي وطرح عليه الفكرة فأعجبته ولم يكن أعضاء الفرقة يعرفون بعضهم حتى يتفقوا على «مؤامرة» معينة. في الوهلة الأولى عقد حميد الزوغي ، كما أشرنا إلى ذلك في حلقة سابقة، لقاء بين سكينة ومحمود السعدي ومولاي الطاهر ولم يكن أي منهم على معرفة بالآخر، واقترح مولاي الطاهر على الزوغي بأن يأتي بمحمد الدرهم الذي لم يكن الزوغي على معرفة به بعدما أبلغه مولاي الطاهر بأنه زجال ويعمل مع محمدعفيفي بالمسرح البلدي لمدينة الجديدة . هكذا تم اللقاء وهكذا كانت البداية وكان محمد شهرمان أول ناظم للفرقة ، وهو من كتب أغنية «الكلام المرصع» وأتمها محمد الدرهم، وتمت المناداة على عبد الرحمان باكو الذي كان يبحر في عوالم «كناوة» بمدينة الصويرة ... هذا التجميع يطرح سؤالا بديهيا مفاده : كيف لأشخاص لاعلاقة قبلية بينهم أن يتآمروا للتشويش على أي كان ؟ كان ظهورالفرقة قويا ، بحيث كانت أكثر تنظيما وأكثر تنسيقا ، سواء على مستوى الإيقاع، حيث تم الاعتماد في أول أغنية للفرقة «الكلام لمرصع» على إيقاع أقلال وهو من أصعب الايقاعات المغربية، هذا الايقاع الذي لم تستعمله فرقة ناس الغيوان إلا في أواسط الثمانينات فى أغنية «زاد الهم» ، أي بعد حوالي خمس عشرة سنة عن التأسيس، وكان ضمن المجموعة طبعا الكناوي عبد الرحمان باكو. كان ظهور جيل جيلالة قويا وجلب إليه الجمهور، لكن ظهورها ظل تكميليا للغيوان وليس مضادا.. نفس المعاني في الكلمات ونفس الاجتهادات على مستوى الايقاعات والأنغام. يقول مولاي الطاهر لابد من الإشارة إلى أن موضوع التنافس أو غيره مع مجموعة ناس الغيوان لم يكن يطرح بتاتا بيننا، فقد كنت صديقا لبوجميع وكنت أعاشره أكثر مما يعاشره زملاؤه في الفرقة وأكثر ما كنت أعاشر زملائي في فرقة جيل جيلالة، فنحن أبناء المسرح ولم تكن الضغائن من شيم أي مسرحي.. لقد تقاسمت مع بوجميع الفقر والغناء في المسرح والتمارين والسهر وكل شيء، كذلك الشأن بالنسبة للعربي باطما .. كنا أصدقاء نجتمع صحبة أصدقاء مشتركين في منزله أو في منزلي أو في بيت أي صديق ولم يسبق ان طرح أي إشكال من هذا النوع بين أعضاء الفرقتين، وأعتقد أن أمر الخلاف ، كان مجرد وهم في أذهان البعض ممن يحبون الاصطياد في الماء العكر، فنحن والغيوان «أولاد باب الله» ولم يكن سننا يتجاوز العشرينات، كنا شبابا نعبر عما نحس به سواء عبر المسرح أو من خلال الموسيقى، كما أن معظمنا كان يغني في المسرح أو مع كناوة ، كما هو الشأن بالنسبة لي وللدرهم وباقبو وعبد الكريم وعبد الرحمان باكو، وعبد العزيز الطاهري، والأمر ذاته ينطبق على العربي باطما وبوجميع وعمر السيد. كنا نحترم الغيوان ويبادلوننا نفس الاحترام، وإذا لم تكن ذاكرة المتتبع قصيرة، فإنني أذكر أننا والغيوان قمنا بأعمال مشتركة أداوا فيها أغانينا وأدينا أغانيهم ، كان ذلك في أواسط الثمانينات ، كما غنينا خارج أرض الوطن مجتمعين، حيث كان أول غناء مشترك بيننا في سنة 1974 في حياة بوجميع ، رحمه الله، إذ غنينا في الملعب الشرفي آنذاك بالدار البيضاء عدة أغاني رحب بها الجمهور كثيرا، وذلك بمناسبة ذكرى تأسيس الأمن الوطني. من هذا الأحمق، يتساءل مولاي الطاهر، الذي يفكر في أن يعادي بوجميع؟ لقد كان الرجل يحمل كل معاني «الانسان»، كان متسامحا إلى أبعد الحدود وفنانا «مجنونا » وصوته أجمل أصوات المجموعات، أضف إلى ذلك أنه ممثل كبير وله تقدير خاص عند الجميع، ومن يعرف بوجميع يعلم أنه كان أكبر من أن يدخل في ترهات الإشاعة...