انتقل النقاش السياسي والحزبي حول الجهوية من أسئلة الديموقراطية والتنمية إلى أسئلة اللغة والثقافة والهوية المغربية، وذلك في تطور يكشف تحول موضوع الجهوية من مجرد ورش إداري وتنموي إلى كونه محطة تعيد فتح النقاش حول إشكالات الهوية المغربية، وعلاقتها بالخصوصيات الجهوية التاريخية والثقافية، وأثر هذه العلاقة في حسم ثلاث قضايا، هي الاختصاصات الجهوية والمركزية، والثوابت المشتركة بين عموم الجهات ومسؤولية الهيئات الجهوية في تعميق المشترك الوطني، ثم حدود إعمال المعيار الثقافي واللغوي في التقطيع الجهوي. لقد تبلور التفكير حول الجهوية المتقدمة في المغرب استجابة لتحديات التنمية والديموقراطية، وليس استجابة منغلقة لمطالب سياسية أو ثقافية أو مذهبية دينية غير معلنة، قد تؤدي إلى تحويل الجهات المحدثة إلى غيتوهات ثقافية أو معازل سياسية وملاجئ للخروج عن الاختيار المذهبي للمغرب القائم على المذهب المالكي، مثل ما نلحظه في حالة منطقة القبايل بالجزائر. لقد ارتكزت الهوية المغربية على تكامل مكوناتها وروافدها، خاصة مع الدور التاريخي والحضاري الذي اضطلع به الإسلام في تقوية تلاحمها وتحقيق إشعاعها وإعطاء معنى لتميزها في محيطها العربي والإفريقي والمتوسطي والأوربي، ومشروع الجهوية المطروح اليوم مطالب بصيانة هذه الوظيفة التكاملية والتأطيرية للإسلام، مما يقتضي اعتبار كل من الوظائف المرتبطة بإمارة المؤمنين كالشؤون الإسلامية أو القضاء أو الاجتهاد الفقهي المؤطر بالفقه المالكي في إطار الاختصاص المركزي الذي لا يفوت تدبير شؤونه للجهات ولا يخضع بالتالي للاجتهاد الخاص بكل جهة، وأخذ العبرة من حالات دول ذات طبيعة فدرالية نوعا ما كالإمارات العربية المتحدة، والتي تعرف تعددا في المذاهب المعتمدة وما ينتجه من تضارب في الاجتهادات والفتاوى والأحكام القضائية ذات العلاقة بالحياة الاجتماعية. أما إذا ما ذهبنا نحو النمط الأنجلو ساكسوني مثل ما هو قائم في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فسنجد التباين بين الولايات حادا في قضايا تهم نظام الأسرة؛ مثل ما يهم الزواج الشاذ ومقررات التعليم في حالة قضايا تدريس نظرية النشوء وأصل الأنواع، والتي تحولت إلى قضايا للاستفتاء الدستوري على المستوى الولائي هناك. في نفس السياق، فإن السياسة اللغوية للمغرب ينبغي أن تبقى في إطار الاختصاص المركزي، دون أن ينفي اختصاص الهيئات الجهوية بوضع برامج للتنمية الثقافية الجهوية، تستثمر المعطيات الثقافية اللغوية؛ سواء منها العربية أو الأمازيغية أو الحسانية في تحقيق التنمية والإشعاع، لكن مع حد أدنى مشترك يحفظ الوحدة الثقافية للبلد، ولهذا فإن الجدل الذي دار في عدد من وسائل الإعلام المغربية، ومن ضمنها يومية التجديد حول موقع اللغة العربية أو الأمازيغية يؤكد التخوف الثاني بعد التخوف المذهبي الديني، وهو التخوف المرتبط بسعي البعض لاستغلال مشروع الجهوية لتأسيس استثناء ثقافي ضد اللغة العربية، والذي لا يقل خطورة عن التخوف الذي يثار حول الأمازيغية واحتمال صدور سياسات ضدها في بعض المناطق ذات أغلبية الناطقين بالعربية. التخوفات المثارة مشروعة ولا ينبغي الاستهانة بها، خاصة وأن البحث التاريخي العلمي النزيه يخلص إلى ما يشبه استحالة وضع حدود لغوية وإثنية داخل المجتمع المغربي بسبب التمازج العميق الذي حصل طيلة قرون، فضلا عن أن المغرب اختار نهج سلوك بناء لغة أمازيغية وطنية معيارية. من هنا فإن كل سياسة جهوية تضع المعطى اللغوي محددا حاسما في تقسيم الجهات المراد إحداثها، فهي بذلك تضع إسفين إرباك لاستقرار المغرب وتحريف مشروع الجهوية عن مراده، بما ينتفي معه القول باعتماد تقسيم جهوي ينطلق من الفضاءات التاريخية اللغوية الكبرى للمغرب.