ربما لم يكن تأجيل القمة المغاربية التي كان من المقرر أن تنعقد يومي 25 و26 ماي الجاري في العاصمة الليبية طرابلس مفاجأة لأحد، خصوصا أولئك الذين يقرأون العلاقات المغربية الجزائرية ضمن سياقها التاريخي وحساسيتها السياسية بالغة التعقيد التي ظلت تعرقل باستمرار أي تقارب بين الجانبين منذ عقود. ويمكن القول أن للجزائر بهذا الخصوص نوعين من السياسات الخارجية، الأولى موجهة لعلاقات الجزائر الإقليمية والجهوية والدولية، والثانية خاصة بالعلاقة مع المغرب، وبينما يتميز النوع الأول بالاستقرار النسبي والاستمرار في الزمن ولا يشهد الكثير من القفزات، تتميز السياسة الخارجية الموجهة ناحية المغرب بأنها كثيرة الانعطافات والتحولات وقليلة المنطق. ففي أقل من شهرين سجلت الديبلوماسية الجزائرية مواقف عدة بخصوص المغرب وقضية الصحراء المغربية تعد قياسية في موازين السياسات الخارجية للدول، مما يقود إلى القول بأن النظام الجزائري ليست له سياسة محددة إزاء العلاقة مع جاره المغربي، أو على الأصلح أن سياسته هي عدم تحديد سياسة معينة، ويؤدي بالتالي إلى استنتاج أن هناك أكثر من موقع قرار في الجار الجزائري يبث في موضوع العلاقة مع المغرب، وأن التطاحن أحد المميزات الرئيسة للعلاقة بين هذه المواقع. والتساؤل المحير هو التالي: لماذا حدث الانقلاب السريع في الموقف الجزائري من التطبيع مع المغرب في ظرف قياسي، بين زيارة الملك محمد السادس للجزائر في الأسبوع الأول من مارس الماضي والتصريحات الأخيرة لبوتفليقة حول الصحراء المغربية في 12ماي الحالي؟ هل كان الانقلاب الجزائري المباغث انقلابا طائشا غير محسوب، أم نتيجة لحسابات سياسية مركبة طرأت في اللحظة الأخيرة؟. في نهاية أبريل الماضي أجرى الرئيس الجزائري تعديلا حكوميا شمل عددا من الحقائب الوزارية، كان على رأسها حقيبة الخارجية التي أقيل منها عبد العزيز بلخادم وعين محمد بجاوي مكانه. ويعتبر بجاوي أحد من يسمون بحراسإرث الرئيس الجزائري الأسبق الهواري بومدين الذي شهدت العلاقات المغربية الجزائرية في عهده أحلك فتراتها، وقد شغل بجاوي في عهد بومدين منصب وزير العدل، وفي السبعينيات عندما رفع العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني موضوع الصحراء المغربية إلى محكمة لاهاي كان بجاوي أحد الخبراء القانونيين بتلك المحكمة ووقف ضد الأطروحة المغربية القائلة بأن الصحراء مغربية، وقد كان تعيينه على رأس وزارة الخارجية محاولة لتأزيم العلاقات مع المغرب، خصوصا وأن الظرفية التي جرى فيه التعيين تزامنت مع صدور تقرير الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ، والذي بموجبه تم التمديد للبعثة الأممية لمراقبة وقف إطلاق النار في الصحراء إلى أكتوبر المقبل، واقترح فيه عنان مساعدة أطراف النزاع للوصول إلى حل سلمي، وهو ما تقول بعض الجهات أنه اقتراح لا يرضي القوى المؤثرة في الجيش الجزائري غير الراغبة في التخلي عن موضوع الصحراء، أو تقديم تنازلاتلصالح النظام المغربي، وهو ما يسمى في الأدبيات السياسية الجزائرية والمغربية بالإرث البومديني. في خضم الجدل الدائر بين أسبوعية الأيام ويومية الأحداث المغربية حول شرعية التعاطي مع قضايا ما يسمى بالسلفية الجهادية، خاصة بعد الإضراب الأخير للمعتقلين، والذي امتد لأزيد من عشرة سجون مغربية، وهو الجدل الذي نشأ بعد حملة إعلامية ممنهجة هدفت لإسكات كل صوت إعلامي مسؤول ومنفتح على الرأي المخالف ومدافع عن مبادئ الحق والقانون، في هذا الخضم صدر بيان وقعه عدد من المشهود لهم بالاشتغال لصالح قضايا حقوق الإنسان وبفعالية مدنية في عدد من المؤسسات والهيئات الوطنية بعد أن سبقته سلسلة من البيانات الحقوقية والجمعوية. الواقع أن بيان المجموعة يمكن أن يضع حسما لجدل ركبته يومية الأحداث لمصلحة مصادرة الحق في التعاطي مع هذه القضايا وتقديم وجهة نظر مغايرة لوجهة النظر الأمنية الاستئصالية الرافضة لأي شكل من أشكال التعاطي، وفي المقابل الدعوة إلى إقرار عدالة حقيقية تصون حقوق الإنسان الأساسية... حقا، لا يسع المرء إلا أن يثمن خطوة إصدار البيان والتي نأمل أن تمتد آثارها لترفع حالة الرهاب الإعلامي لبعض المنابر من التعاطي الشفاف والمسؤول مع هذه القضايا خدمة لدولة الحق والقانون. التطور الثاني الذي حصل في الجزائر في الشهر الماضي ويرتبط باحتمال ظهور توجه جزائري على أعلى مستوى إلى تأزيم العلاقات مع المغرب هو استحداث منصب وزير منتدب لدى وزير الدفاع، مرتبط مباشرة بالرئيس الجزائري بوتفليقة، ويحضر اجتماعات المجلس الحكومي بخلاف رئيس أركان الجيش، وقد تم تعيين الجنرال عبد الملك غنيزية في هذا المنصب. وكان استحداث المنصب العسكري الجديد كجزء من التشكيلة الحكومية يشيرإلى طموح الرئيس الجزائري في الدفع بمشروع تحديث المؤسسة العسكرية خطوات إلى الأمام، وكانت الجزائر قد شرعت في هذا المشروع قبل عامين في إطار الحوار الذي كان قائما بينها وبين حلف شمال الأطلسي بهدف تكريس التعاون بين الجانبين، واستفادت من هذا الحوار من أجل رفع الحظر الأوروبي والأمريكي على التسلح الذي كان مفروضا منذ 1992 تاريخ بداية الحرب الأهلية الداخلية. ويعتبر الجنرال غنيزية أحد الوجوه البارزة في الجيش وواحدا ممن يطلق عليهمالتيار الاستئصالي، إذ كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي عام 1992 ولعب دورا رئيسا في تدبير الانقلاب على الانتخابات البلدية التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لذا يرى فيه المراقبون أحد أقطاب التيار المتشدد في السياسة الخارجية الجزائرية. وتزامنت هذه التغييرات الحكومية في الجزائر مع إقدام هذه الأخيرة على تحديث ترسانتها العسكرية وشراء أسلحة متطورة من بلدان أوروبية ومن روسيا، وكانت قد اقتنت قبل أشهر قليلة طائرات متطورة من هذه الأخيرة، حيث أشار تقرير لمنظمة أوكسفام غير الحكومية التي مقرها بلندن، صدر في أواخر شهر مارس الماضي، إلى أن نفقات الجزائر في مجال اقتناء الأسلحة قد ارتفعت من 24 مليار دولار عام 2003 إلى أزيد من 31 مليار دولار مع نهاية عام ,2004 وتشكل كل من الولاياتالمتحدة وإسبانيا وروسيا والصين وجنوب إفريقيا المصادر الرئيسية للجزائر لاقتناء الأسلحة. وفي شهر أبريل الماضي أيضا، وأثناء الزيارة التي قام بوتفليقة إلى العاصمة الفرنسية باريس، صرح الرئيس الجزائري بما يفيد أن قرار فتح الحدود الذي كان أحد الموضوعات التي طرحت في اللقاء بينه وبين الملك محمد السادس في زيرالدة بالجزائر في مارس المنصرم لم يعد موضوعا استعجاليا، حيث قال بأن مسألة الحدودتتطلب شهورا. هذه الخطوات التي تكثفت خلال فترة وجيزة فقط وخلال شهر واحد كشفت أن النظام الجزائري لا يأخذ التقارب مع المغرب مأخذ الجد، وأن الخطوة التي تحققت إثر زيارة العاهل المغربي أعقبتها خطوتان قامت بهما الجزائر لنسف كل شيء. بوتفليقة ينقلب على نفسه بالرغم من ذلك قرر المغرب المشاركة في القمة المغاربية التي كانت مبرمجة في الشهر الجاري بليبيا، وهي كانت ستكون أول قمة تجمع العاهل المغربي والرئيس الجزائري، والأولى من نوعها منذ تولي الملك محمد السادس الحكم، حيث كانت آخر قمة قد انعقدت في عام ,1994 وفي اللحظة الأخيرة صوب بوتفليقة رصاصة الرحمة إلى القمة عندما وجه رسالة إلى رئيس جبهة البوليساريو ضمنها مواقف صريحة ضد الوحدة الترابية للمغرب، حيث قال فيها إننا ملتزمون كما كنا دائما، وسنذهب إلى ليبيا ونحن أوفياء لوعودنا، وكان هذا أول انقلاب علني على ما سبق التعهد به خلال زيارة الملك محمد السادس للجزائر، وما أعلنه وزير الخارجية الجزائري السابق عبد العزيز بلخادم، من أن ملف الصحراء المغربية ينبغي أن يترك جانبا بيد منظمة الأممالمتحدة، وأن يتم الانطلاق نحو تطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين وتحريك الإطار المغاربي المجمد. حسابات سياسية الدوافع وراء الانقلاب الجزائري على ما تحقق أخيرا على صعيد العلاقة مع الرباط ليست لغزا، فالنظام الجزائري ظل باستمرار أمينا لبعضالتوابث التي رسخها الجيش في البلاد ولم تعد تقبل التحريك أو التغيير والتعديل فيها. إن جذور النزاع المغربي الجزائري حول قضية الصحراء التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي توجد في الطموح الجزائري للعب دور إقليمي أكبر والحيلولة دون أن يتفرد المغرب بلعب مثل هكذا دور، وخلال العقود الماضية ظل هذا الأمر هاجسا قويا في السياسة الجزائرية، ولم تكن قضية الصحراء سوى ذريعة لتبرير هذا الهاجس، بدليل أن الجزائر نفسها هي التي اقترحت على المبعوث الأممي السابق الخاص بنزاع الصحراء المغربية جيمس بيكر خطة لتقسيم الصحراء قبل عامين، الأمر الذي كشف بالملموس أن ما يهم الجزائر ليس هو ما تعلنه حولالشرعية الأمميةوحق تقرير المصيروإنما الحصول على موقع في الخارطة الإقليمية الجديدة في منطقة المغرب العربي بعد زوال ظروف الحرب الباردة وبداية تساقط الأطروحة الانفصالية لجبهة البوليساريو، وبالتالي ثبات المغرب على مرتكزاته المدافعة عن المشروعية وعدم النزول إلى أدنى من السقف الذي رفعه دائما وهو أن قضية الصحراء قضية وطنية، وبداية ظهور موجة من الاعتراف بحقوق المغرب في الصحراء وتراجع عدد البلدان التي تعترف بجهبة البوليساريو، ذلك لأن تساقط أطروحة هذا الأخير وانفراط المؤيدين من حوله سوف يؤدي منطقيا إلى سقوط الركاز الذي تستند عليه الجزائر، بمعنى أن البوليساريو هو مسألة حيوية بالنسبة لمصالح الجزائر الإقليمية، وأنه ما دامت هذه المصالح قائمة فإن بقاء الجبهة يظل مسألة ضرورية وحاسمة. لكن هذا المرتكز بدأ يتلقى في الأيام الأخيرة ضربات متوالية شكلت أخبارا سيئة بالنسبة للجزائر، فيوم 18 ماي الحالي وجهت منظمة أمريكية تدعىالمجلس الأمريكي للمعتقلين المغاربةرسالة إلى كاتبة الدولة الأمركيية في الخارجية كوندوليزا رايس تطالبها فيها بإدراج جبهة البوليساريو في قائمة المنظمات الإرهابية، بعد تلويحها باحتمال العودة إلى حمل السلاح إثر التقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان عن الوضع في الصحراء الذي لم يرض مصالحها، ويوم الثلاثاء الماضي 16 ماي الجاري دعا عضو مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور الجمهوري جون ماكاين الجبهة إلى إطلاق سراح المعتقلين المغاربة ال 400 المحتجزين في تيندوف، وندد بذلك الاحتجاز المنافي لمواثيق حقو ق الإنسان، مدفوعا بتجرته الشخصية حيث سبق أن كان أيضا معتقلا في حرب فيتنام.وفي 17 ماي الحالي أيضا كتبت يوميةواشنطن تايمزالأمريكية مقالا تطالب فيه بأن تسري القوانين التي تطال منظمات الإرهابية على جبهة البوليساريو، واعتبرت أن هذه الأخيرة ما تزال تحتجز معتقلين مغاربة لديهافي وضع شبيه بالعبودية. وحسابات اقتصادية أيضا هذه الحسابات السياسية المذكورة سوف تضاف إليها حسابات اقتصادية، ذلك أن الجزائر ترى في دخول اتفاقية التبادل الحرب بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والمغرب حيز التنفيذ بداية من شهر يوليوز المقبل خطرا على اقتصادها، بحيث تخشى أن يتحول المغرب إلى قطب جاذب للاستثمار الجزائري والمغاربي بفعل هذه الاتفاقية، وأن التقارب بينها وبين المغرب سوف يخدم هذا الأخير أكثر مما يخدمها. العنصر الثاني في هذه الحسابات الاتقصادية الجزائرية أيضا هو التقارب المغربي الفرنسي في مجال القتصاد، ففرنسا تسعى اليوم إلى توقيع عقدة عقود واتفاقيات اقتصادية وتجارية مع الرباط، وباريس لا تستثني الأقاليم الجنوبية الصحراوية من شمولية تلك الاتفاقيات لها، ما يعني أن الحكومة الفرنسية تعترف بالحقوق التاريخية للمغرب في الصحراء.وقد دخلت الجزائر على خلفية هذا التقارب في نزاع سياسي مع باريس في بداية الشهر الحالي بمناسبة ذكرى مرور خمسين عاما على مذابح مدينة سطيفالجزائرية على غعهد الاحتلال الفرنسي في 8 ماي 1945 التي قتل فيها عدد كبير من الجزائريين، حيث طالبت الجزائر من الحكومة الفرنسية الاعتراف علنا بتلك المذابح والتعويبض عنها، وفسرالمراقبون خروج الجزائر عن صمتها بعد عقود بكونها تريد ابتزاز فرنسا من الحصولعلى مكاسب سياسية واقتصادية، وليس بعيدا أن يكون الهدف أيضا الحؤول دون أي تقارب مغربي فرنسي على حساب الجزائر. ادريس الكنبوري