المشاكل المتعددة التي تتخبط فيها أسرنا تختلف في الشكل والمضمون، وأسبابها إما مادية أواجتماعية أو ثقافية أو نفسية، غير أن أهمها وأخطرها بل وأكثرها انتشارا آفة الخمر مصدر كل الخبائث ورأس كل بلية و شقاء.. حينما اتجهنا صوب إحدى الأسر بمدينة وزان لنرصد نموذج واحد من بين آلاف النماذج المنتشرة هنا وهناك في مختلف المدن المغربية كان قصدنا ملامسة وجه من أوجه معانات أسرنا المغربية الكثيرة والشائكة عن طريق أخذ شهادة واضحة وقوية لعلنا نستطيع إيصال صورتها المقهورة للتخفيف عنها أولا. ولكشف الحقائق لكل من راودته نفسه أو همزت في نفسه الشياطين للسقوط في براثين هذه الآفة الخطيرة، وهي أيضا رسالة لمن يهمه الأمر من دعاة التحرر والانفتاح والمدعين بأن حانات بلادنا ودكاكين بيع الخمور مفتوحة في وجه الأجانب لا غير. وإليكم الحكاية. بداية المعاناة القاسية وتفاقمها رب هذه الأسرة رجل تعليم وزوجته امرأة مثقفة وحاصلة على دبلوم التعليم العالي ولديهم أربعة أطفال أمضوا ما يزيد عن عشرين سنة في الزواج مرت كلها معاناة ومرارة ابتدأت منذ بدايات اللقاء تحت سقف الحياة الزوجية وما تزال إلى حدود الساعة. كانت تعلم أنه مدمن للخمر قبل الزواج، ولكن صغر سنها و انعدام خبرتها إضافة إلى مشاكل كانت تعيشها داخل أسرتها شجعتها على القبول دون توجيه من أحد أو تحذير من واقع صعب و مستقبل أصعب، قالت في تحسر: منذ الوهلة الأولى وجدت نفسي أمام طفلين ولا أب يعينني في تربيتهما.قالت والدموع تملأ عينيها : كان يسافر بالأيام و لا يترك لي المال الذي أصرف منه على أكلي ومتطلبات أطفالي، كنت أتركهم بالبيت لوحدهم وأخرج مسرعة لاقتناء الضروريات، ثم أعود لأجد مخاطر كثيرة قد وقعوا فيها. كان يعلم انه ليس لدي أسرة تدافع عني ويهابها أو أب يسأل عن ابنته التي يجب أن يحافظ عليها ويوفر لها كل حقوقها. استفحال الأزمة أدى به شرب الخمر الكثير إلى الابتلاء بلعب القمار لدرجة أنه بدأ يسحب أجرته قبل موعدها ليترك أسرته عرضة للجوع والفقر،هذا ما قالته والألم يعتصر كيانها: عند بداية كل شهر لا نجد ما يسد رمقنا ويلبي أدنى ضروراتنا. أصبح يذل نفسه وهو رجل تعليم من المفروض فيه أن يكون محترما إلا أنه يطلب من هذا وذاك ليسلفه ما يسكر به ويلعب القمار دون انقطاع حتى غرقنا في ديون لا حصر لها. حانة داخل البيت البيت لم يعد مكان استقرار وطمأنينة وأمان وصاحبه لم يعد يكلف نفسه عناء التوجه إلى الحانات وأوكار الفساد، فقد أصبح منزله متسعا للرذيلة وملجأ للتجمعات. يأتي برفاق سوئه إلى حضن داره وزوجته و أولاده دون أن يبالي بالعواقب أو يخاف على عرضه،استرسلت والتوتر وحمرة الغضب تملأ وجهها: يجعلني عرضة لأطماع أصحابه السكارى، فلا أحس بالأمان في بيتي وقد أصبح يأتي برفاق السوء إلى البيت ليقضوا ليلتهم في شرب الخمر واضطرني لإدخال أبنائي إلى غرفة نومي وأغلق عليهم الباب بمفتاح لأبقى مستيقظة حتى ينتهوا من سهرتهم ويخمدوا أصواتهم المقززة وعند انصرافهم أقوم بتنظيف الأوساخ التي يتركونها، كما أنه في بعض الأحيان كان يتركني معهم وهم سكارى ويذهب ليأتي بالمزيد من الخمر، حتى إن أحد أصحابه حاول الاعتداء علي فكان رد فعله عندما أخبرته بذلك أن قال لي أنت فقط تكرهين أصدقائي وتريدين أي سبب لإجلائهم من البيت. الأطفال ضحية وبنفس المرارة لكن بألم أكبر تحدثت عن معانات أطفالها وعن سوء أحوالهم النفسية والدراسية فقالت وهي متأثرة: أولادي لم يكونوا يتبولون وهم صغار والآن وهم في سن المراهقة بعضهم يتبول والبعض الآخر لا يريد إتمام دراسته والبعض مريض بالأعصاب وهم دائما خجلون من أصحابهم بسبب حالة أبيهم وسكره الذي يعرفه الجميع، ومنذ أن كانوا صغارا كانوا يرتعشون ويقومون مفزوعين من النوم في جوف الليل عندما يدخل علينا أبوهم وهو سكران يتمايل على الحائط ويسقط على الأرض. كما أنه لا يكتفي بذلك بل يتدخل في تربيتهم بالسوء ليفسدها، فعندما أمنعهم من فعل الخطأ وأكون صارمة فيما يجب الحزم فيه يتدخل هو ليعطيهم الإذن لفعل ما يشاؤون ويعلمهم الكذب وبيع الضمائر منذ الآن؛ فعندما أرسل أحدهم ليطلب منه شيئا في المقهى الذي يجلس فيه طوال النهار والليل يعطيه بعض الدراهم ويقول له : خذ هذه مقابل أن تقول لأمك أنك لم تجدني. الحل والقرار الصعب وكمعالجة لهذا الوضع المأساوي الذي تعيشه أخذت تحكي بإصرار وحرقة كيف أنها اضطرت للخروج لبيع بعض المنتوجات حتى تستطيع أن تجد قوت أبنائها رغم أنه يأتي ليأخذ ذلك المال الذي تعبت في تحصيله فينزعه منها بالقوة أو بالسرقة حتى إذا أدى به الأمر إلى تكسير الأدراج لاستخراجها، وكرد فعل على كل ذلك قالت بعزم وإصرار: بالنسبة لي حتى وإن استقامت الأمور واعتدل زوجي لا أستطيع العيش معه بعد ذلك ولا أريد شيئا إلا أن أرتاح من كل شيء، لأن صحتي تدهورت كثيرا، فهو رجل لا مسؤول وأنا ضحيت كثيرا على أمل أن يستقيم ولكنني سئمت ولا أفكر إلا في الطلاق، فأولادي ضائعين وأنا كذلك، ولا حل إلا القضاء. صرخة ألم بعد كل هذا صرخت الأم بحرارة و بقوة معبرة عن استيائها من الخمر ومعلنة عن مسارها الصعب و المرير. الخمر هو آفة اجتماعية يخرب البيوت، وأنا صبرت كثيرا، لو كنت أمية جاهلة أو ضعيفة الإيمان لتبعت طريق زوجي وانحرفت كباقي صديقاتي اللواتي يعشن نفس ظروفي مع أزواج (مْفلسين ) وهن الآن ضائعات في الخمر والعلاقات مع مختلف الرجال ويعتقدن أنهن بهذه الطريقة ينتقمن من أزواجهن، ولا يعلمن أنهن ينتقمن من أنفسهن وأولادهن الذين وصل بعضهم الجامعة وهو لا يزال يتبول بالليل وبعضهم الآخر بسبب كثرة الانفعال مرض بمرض السكر ومنهم من يتعاطى المخدرات والتدخين والعلاقات المشبوهة غير الشرعية وكل مصائب هذا الزمن الصعب. وكل هذا بسبب الخمر هذا السرطان الخطير الذي يدخل للفرد الواحد فيدمر من خلاله حياة الأسرة، بل كل المجتمع. فكل مشاكل الحياة تهون إلا الإدمان ليس له حل فهو أم المصائب والمشاكل. كانت هذه الشهادة التي تعبر عن نفسها ولا تحتاج إلى تعليق، ولكن بعد أن اضطلعنا على كل هذا، هل حل مثل هذه المشاكل التي يتخبط فيها عدد كبير جدا من أسرنا المغربية هو كثرة القوانين وتعقيدها أم أن الأمر يحتاج إلى تربية على قيم ديننا الطاهر الذي يقدر الإنسان ويحترمه ويؤهله لإعداد نشء قوي منتج وفعال ؟ بشرى الراضي