قال تعالى: ؟فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ (39)؟ (آل عمران)، في هذه الآية معجزة تربوية تلخص طريق تحقيق الرغبات التي تتمناها في دنياك، لقد طلب سيدنا زكريا- عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- من ربه- ولدًا يكون وارثًا للنبوة رغم علمه بشيخوخته، وعدم قدرة زوجته على الإنجاب، واعترافه بهذا، ولكن ما جعله يطمع فيما عند الله- وما ذلك على الله بعزيز- هو أنه رأى رزق الله لمريم بعينه، بغير حساب وبلا أسباب، لكن الأعجب أنه- بعد أن سأل ربَّه وألحَّ في الطلب- ذهب إلى المحراب ليصلي، فلِمَ لَمْ تنتظر الملائكة بالبشرى حتى يصلي لتخبره؟ إن الدرس في حالة صلاته أبلغ، والتربية هنا أوقع وأنفع لأمثالنا، فاشغل نفسك برضا ربك، وعبادة ربك يُعطك أفضل ما يعطي السائلين، كما ورد في الحديث القدسي: من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين (رواه البخاري في التاريخ، والبزار في المسند، وقال ابن حجر حديث حسن)؛ لأنك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. أنت ونفسك وهواك: إن سيطرتك على نفسك وشهواتها، وهواك ورغباتك، تجعل منك حكمًا رشيدًا على كل هؤلاء، كي تقودهم ولا يقودونك؛ لذلك انظر إلى قول الله عز وجل- ؟وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)) (الشمس). إن الآيات توضح أن عجلة القيادة بيدك؛ لأن الجزاء في النهاية سينال الجميع أنت ونفسك وروحك وبدنك، فلا تجعل لأي طرف تحت ولايتك أن يتسبب في عقابك، مثل طفلك الصغير الذي يريد أن يلهو بإشعال عود ثقاب، ويريد أن يوقد موقد الغاز، ويحاول عدة محاولات بإلحاح، وهو سعيد بتكرار التجربة، ومفتاح الغاز ينساب منه الخطر، فهل يعقل أن تشاركه هذا التهور؟ أو حتى تكتفي بموقف المتفرج وأنت تدرك أن الحريق في النهاية سيأتي على كل ما في البيت من أشخاص وممتلكات؟ فاشحن النفس بشحنات الخير والطاعة المتتالية لتزكيتها وتطهيرها، فتجني الفلاح ؟قَدْ أَفْلَحَ؟ (الشمس: من الآية 9)، ولا تدس فيها الخبث مرةً بعد مرة فتجني الخيبة ؟وَقَدْ خَابَ؟ (الشمس: من الآية 10)، وانه نفسك عن الهوى، واستحضر وقفتك بين يدي الله، لتكون ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى؛ ليتحقق لك وعد الله، فإن الجنة هي المأوى. إن الله اشترى.. فهل تبيع؟: عجيب أن تكون أنفسًا هو خالقها، وأموالاً هو رازقها وعلم منا بخلاً فاشتراها منا ووعدنا بها الجنة. إن الآية توصلك إلى نهاية القضية (بيع النفس والمال)، ولكن هذا ليس إلا من المؤمن، أي المصدق بوعد الله، وكل ما ستتعرض له في هذه الدنيا، إنما هي أقساط البيع لأجزاء من النفس والمال، إلى أن يتم إنهاء الصفقة، ويتم تسليم كل النفس وكل المال، لتعود الأمور إلى صاحب الأمر، وتصرخ من أعماق قلبك، ربح البيع ربح البيع.. وإياك أخي المؤمن أن تساوم في البيع، لتحاول الإبقاء على جزءٍ من الصفقة، فإن الله عز وجل- أغنى الشركاء عن الشرك، وإذا أردت أن يوفيك ربك ويجزل لك العطاء، فأوف بعهدك مع الله، فما لنا إن وفينا يا رسول الله؟ قال: الجنة. وكل مشاكلنا على الطريق، وانحرافاتنا عنه، ترجع إلى غياب هذه الحقيقة الناصعة، إن من باع نفسه وماله لله، سيتم إنفاذ البيع له في موعده المقرر، ومن يرفض البيع، سيؤخذ منه رغم أنفه في نفس موعده المقرر، ولا حسنة له، بل عليه وزر نكث العهد، ويحضرني المثل العامي (إن صبرتم أجرتم وأمر الله نافذ، وإن ما صبرتم كفرتم وأمر الله نافذ). ألا تحبون أن يغفر الله لكم: أخي المؤمن الموقن بأن ما عند الله أوثق مما في يديك، إن الله يخاطبك، بل يخاطبنا جميعا في صورة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيم) (النور: من الآية 22)، في موقفٍ لا يتحمله إلا أولو العزم، أن تُتهم ابنته الشريفة العفيفة أم المؤمنين، من رجل هو من قرابته وينفق عليه، فلا أقل من أن يقطع عنه المال الذي كان يعطيه له، فهو لا يستحقه، لأنه يقول غير الحق، وناكر للجميل، فيُعاتبه ربه ويرغبه في الاستمرار في الإنفاق على مسطح المشارك في حديث الإفك، أما فعله فحسابه وعقابه شيء، وأجرك من الإنفاق عليه شيء آخر. احرص على نيل الغفران من الله، احرص على طلب الجنة، ولو كان هذا على حساب مَن أساءوا إليك، فهم بإساءتهم مطيتك إلى الجنة. وهو نفسه أبو بكر يسبه رجلٌ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول لا يتكلم، وأبو بكر لا يرد، فلما بدأ أبو بكر بالرد، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من المجلس، ولما سأله أبو بكر مستغربًا أنه لم يقم بينما الرجل يسب أبو بكر، بينما قام لما رد أبو بكر، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أوكل ملكين من ملائكته يردان السباب عن أبي بكر، فلما تولى أبو بكر رد السباب حضر الشيطان وانصرف الملك، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس في مجلسٍ فيه شيطان. فاجعل تعاملك مع الله مباشرةً والوسطاء يمتنعون، ألا تحب أن يغفر الله لك.. قل: بلى. وفاء الأجر: ؟وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)؟ (آل عمران). ختام الآية يربي النفس المؤمنة على ألا تنتظر وفاء أجرها في الدنيا، بل تديم عمل الصالحات وهي واثقة في وعد الله، أن ما ينقص منها في الدنيا، ستوفاه في الآخرة، وما تتعرض له في الدنيا، ليس هنا مجال القصاص، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: من الآية 185). لكن الغريب واللافت للنظر أن هذا قُرِنَ بأن الله لا يحب الظالمين، أليس في هذا طمأنة للنفس المؤمنة المبتلاة، بأن الظالمين سيكونون وراء كل انتقاصٍ من حقوقهم، وليس معنى أن يملك ربك أمرك لعدو الله وعدوك أم إلى عدو ملكته أمري أن الله لا يحبك ويحب الظالم الذي ملكه أمرك، لا بل هو استدراج للظالمين كي يقعوا فيما يوجب العقوبة المغلظة، من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب (رواه البخاري)، فالويل كل الويل لمَن آذى مؤمنًا وسلب حقوقه وظلمه، فيوم الحساب عسير، على الكافرين غير يسير. أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة: هل تتصور يا أخي المسلم عندما تقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم والليلة أن في هاتين الكلمتين (الصلاة- الزكاة) علاجًا لكل ما تشكو منه من علل وأمراض وضنك وضيق وهم وغم؟ إنها الصلاة التي تحقق الراحة الكاملة وتقيم وتديم الصلة بالله- عز وجل، وإنها الزكاة والصدقة التي تبث الإيمان، وتحقق اليقين، وتعمق الطهارة في النفس البشرية.. اللفظ لغة في الإقامة من مادته اللغوية، قام أقام يقيم قائم، فيها معنى البناء، فالصلاة بناؤها فوق أركان، ويعلو ببنائها حتى يبلغ عنان السماء، بل قد تصبح في حقيقتها كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم معراج المؤمن، تصعد به إلى حيث فرضت من أصلها في رحلة الإسراء والمعراج، عند سدرة المنتهى. وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وأهميتها، عندما قال صلى الله عليه وسلم: مَن أقامها فقد أقام الدين، ومَن هدمها فقد هدم الدين، فعدم إقامة الصلاة هدم لبنائها. ومنها الإقامة فيها والسكن، وذلك بعد أن تبنيها تسكن فيها وتسكن إليها، ومنها الإقامة والاعتدال وعدم العوج وعدم الخلل، ومنها الإقامة والمقيم والاستقامة، والمقيم هو المستمر الدائم، ففيها معنى الدوام، لذلك جاءت مرة (عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج: من الآية 23)، ومرة: (عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المعارج: من الآية 34)، والصلاة صلة، فالتدريب على شعيرة الصلاة تدريب على الصلة بالله، وعلى قدر حسن الصلاة يكون حسن الصلة.. أما الزكاة والصدقة، فليس المطلوب جمعها ودفعها للفقير، إنما المطلوب إيتاؤها، أي توصيلها على أحسن وجه، ففي حالة الأمانة قال الله- عز وجل ؟إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا؟ (النساء: من الآية 58)، ولذا لم يقل هنا وتؤدوا الزكاة، أما الزكاة ذاتها ففيها معنى الطهارة والتطهر والنمو والزيادة، لأنك تخرج من كل ما رزقك الله صورًا عديدة من الزكاة: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) (الطلاق: من الآية 7)، (أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: من الآية 254)، وورد في الأثر (زكاة العلم مدارسته)، وتتصدق من علمك على غير المتعلم، وتتصدق من خبرتك على الآخر الذي ليس له ما أنت فيه من خبرة، وتتصدق من صحتك على العاجز والضعيف، وتتصدق من حلمك على من يجهل عليك، وكل ذلك سماه الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة.. أما الثمرة منها فهيا نقطفها: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (التوبة: من الآية 103)، (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (البقرة: من الآية 265)، تطهير وتنمية وتثبيت هذه الثمار الطيبة التي تجنيها بعد إخراج الزكاة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والصدقة برهان رواه مسلم، أي دليل على صدق الإيمان واليقين، والثقة بما عند الله أوثق مما في يديك. فهيا نصحح صلاتنا لنقيمها، ونتصل من خلالها برب العرش العظيم، وهيا نراجع زكاتنا فنزكيها ونتزكى بها تزكية الله الكريم