حتى يزول اللبس، فإن المقصودين من عبارة الصابرين على أولادهم ليسوا الآباء المثابرين والمجدين الذين يبذلون قصارى جهودهم ليصلوا بأبنائهم إلى بر الأمان من تحقيق تفوق دراسي وتأمين مستقبل عملي، في ظل استقرار أسري يتعاون فيه الأب والأم وهما ينعمان بروح المودة والرحمة. إن المقصود ب الصابرين على أولادهم في هذا المقام، أزواج وزوجات على حافة الطلاق ولا يمنعهم من تنفيذه سوى الصبر على الأولاد، وكأن حالة الانتظار هذه تمثل صمام أمان لهؤلاء الأبناء الذين يعيشون في كنف أسرة مقبلة على التفكك. إن هناك حالات كثيرة لأزواج قد حسموا في مسألة الفراق إلا أن خوفهم على تأثر الأبناء بحالة الفراق هذه، وخصوصا على تحصيلهم الدراسي، قد يجعلهم يرجئون تنفيذ عملية الفراق هذه إلى ما بعد إتمام الأولاد لتحصيلهم الدراسي، وتأمين مستقبلهم المهني. وهناك حالات لزوجات لم يحالفهن حظ العثور على زوج يقدر الحياة الزوجية ومسؤوليتها، ورغم مثابرتهن ومجاهدتهن وتضحياتهن تجاه أبنائهن، تجدهن كالذي يريد أن يصفق باليد الواحدة، فإما يضرب بها الهواء فتتيه أو يضرب بها الحائط فتنكسر، ورغم ما يكابدنه من صعوبات تجد على أفواههن دائما لولا الأولاد لما استمررت مع هذا الرجل، ومنهن من يتعرضن للضرب والشتم، كما أن منهن من يتعرضن للإيذاء النفسي من سوء المعاشرة، لكنهن يخترن أن يصنفن ضمن الصابرات على أولادهن. وإن من الرجال من يتصف بصفات الرجولة والمروءة، ويسعى ليل نهار لأجل أسرة مستقرة هانئة، لكن اختياره لم يكن موفقا في العثور على زوجة تحسن أداء مسؤولية الأمومة والزوجية، فإما زوجة ابتليت بممارسة الشعوذة أو بتضييع الوقت في ما لا يعود على الأسرة بالنفع، مبذرة، و إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، لا تلقي بالا لشيء اسمه الحياة الزوجية، وتستمر في إنجاب الأبناء وكأنها في مؤسسة لإنتاج المواد وليس البشر، أزواج هؤلاء النساء قد لا يتسرعون في اتخاذ قرار الطلاق، حرصا على أولادهم من زوجة الأب، لينضاف هؤلاء الأزواج أيضا إلى مصاف الصابرين على أولادهم. إن الجو الذي تعيشه الأسرة التي يكون طرفاها أو أحدهما من الصابرين على أولادهم، يكون مشحونا بالصراع مبطنا كان أو مكشوفا، وفيه، كما يقول الدكتور محمد عباس نور الدين في كتابه: التنشئة الأسرية: رؤية نفسية اجتماعية تربوية لعلاقة الأسرة بأبنائها والإشكاليات التي تطرحها: تتكرر انتقادات كل من الزوج والزوجة لبعضهما البعض بحيث لا يفكر كل منهما إلا بالألم الذي يسببه له الطرف الآخر، متناسين الألم الذي يسببانه للأبناء بسبب هذا الجو المشحون بالكراهية المبطنة وغير المعلنة بينهما. ونتيجة انشغال الطرفين بموقف كل منهما من الآخر فإن كلا منهما قد يسقط معاناته على الأبناء، فالأب قد يتجاهل حاجيات ورغبات الأبناء الذين يعتبرهم ضحية لسوء اختياره، أو قد يبالغ في القسوة عليهم كتعبير غير مباشر عن فشله في علاقته الزوجية. والشيء نفسه بالنسبة للزوجة التي قد تلجأ إلى المبالغة في احتضان الأبناء مبررة قسوتها عليهم بحبها الشديد لهم، وذلك كتعبير عما تشعر به من إحباط نتيجة سوء علاقتها بالزوج. ويعلق الدكتور محمد عباس نور الدين في كتابه على هذا الوضع بقوله: إذا كان من المتفق عليه أن الطلاق يترك آثارا سلبية على الأبناء، إلا أن هذه الآثار لا تبدو إلا في الأسر التي كان يسودها الحب والوئام بين أفرادها ولا سيما الزوجين. أما الأسر التي تعاني من الصراع المبطن أو المكشوف بين الزوجين، فإن آثار الطلاق قد تكون أقل سلبية مما نتوقعه، بل قد يكون الطلاق هو أهون الشرين. وفي بعض الحالات قد يلقى الطفل عطفا واهتماما من طرف زوج الأم أو زوجة الأب، ينسيه الجو الذي عاشه قبل انفصل والديه عن بعضهما والذي كان مشحونا بالكراهية والنزاعات المتكررة. وإننا بهذا لا ندعو الصابرين على أولادهم للطلاق وإنما نسائلهم: أليس من الممكن الجمع بين الحسنيين: الصبر على الأولاد مع تحقيق المودة والرحمة، وذلك بالبحث عن مكمن الداء في الحياة الزوجية والبحث عن الدواء فما أنزل الله من داء إلا وجعل له دواء أو كما جاء على لسان خير البرية، ولتكن نقطة الانطلاق: الاعتراف بالخطإ للنفس والاعتراف بالجميل لشريك الحياة.