تطلق السياسة بمفهومها الوضعي على علم الدولة بمختلف شعبها ومرافقها، ويعتبر أرسطو مؤسس علم السياسة بكتابه (السياسة) الذي بحث فيه نظم الحياة الإنسانية مبتدئا بالأسرة ثم المدينة ثم الدولة، وتقوم الدراسات السياسية على نظريات الفلاسفة ورجال الفكر والقانون في مختلف العصور والبقاع، كما تعتمد تجارب الدول وسلوك الحكومات الناضجة، وهكذا تطور مفهوم السياسة حتى زاغت عن مدلولها الصحيح، وصارت عبارة عن الكذب والمراوغة والمكر والكيد والخداع، كما قال قائل: (وما السياسة إلا الكذب مختلقا وما التمدن إلا قلة الدين). السياسة بين المؤلفات الإسلامية والغربية وكتاب (الأمير) للكاتب الإيطالي ميكيافيلي معروف في تقرير هذه السياسة، كما أن كتاب (لعبة الأمم) للديبلوماسي الأمريكي (مايلز كوبلاند) زاد صورة السياسة الدولية وضوحا وأبان عن كثير من دسائسها الخفية وأساليبها الملتوية، ومما جاء فيه من قواعد هذه السياسة (ومن السذاجة الخاطئة بمكان أن يفسر أي تصريح رسمي حول السياسة الخارجية بصفاء النية وخلوص السريرة، فالمناورة شرط أساسي لأي زعيم، فهو يظهر ما لا يبطن ويقول شيئا ويعني به شيئا آخر). أما السياسة في الإسلام فإنها تؤخذ بمفهومها اللغوي الذي يعني التوجيه والتهذيب والتأديب والرياسة والقيادة والخبرة والتجربة وإصلاح الأمور ورعايتها، إلا أنه غلب استعمالها في شؤون الدولة ونظام الحكم وهكذا وضع علماء الإسلام من مختلف القرون مصنفات حول سياسة الدولة ونظام الحكم، منها ما حمل نفسه ك (كتاب تهذيب السياسة للأهوازي)، وكتاب (الشهب اللامعة في السياسة ،لنافعة) لابن رضوان، وكتاب (السياسة الشرعية) لابن تيمية، وكتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي، وكتاب (السياسة في تدبير الإمارة) لأبي بكر المرادي، وغيرها كثير لا يحصيه عدد، ولا يستقصيه حد، كما أنه في كل كتاب من كتب التفسير والحديث والفقه نجد أبوابا وموضوعات خاصة بنظام الحكم وأمور الدولة وما يتعلق بها من إقامة الحدود وتنظيم الجهاد وقواعد العلاقة والتعامل مع العدو في الحرب والسلم، وغير ذلك من أعباء الدولة وأعمالها، مما يعني أن السياسة جانب كبير من جوانب الشريعة ومجال واسع من مجالاتها التي حظيت بالنصيب الأوفر من العناية والرعاية. خصائص وأركان الدولة الإسلامية أ في الفرد والأسرة ومن المعلوم في العرف السياسي أن الدولة تقوم على خمسة أركان، الفرد، والأسرة، والأمة، والوطن أو الدار، والدين والملة، وقد تولت السياسة الشرعية هذه الأركان بالرعاية والعناية والتقويم تحقيقا لقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، وقوله سبحانه: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). أما الركن الأول وهو الفرد فقد توجهت تعاليم الإسلام إلى جوانبه الثلاثة، عقله وروحه وبدنه، فعالجت عقله بالتنوير والترشيد وتنزيهه عما لا يليق بكرامة الإنسان، وحثته على اكتساب العلم والحكمة ليكون خليقا بوراثة الأرض التي كتبها الله للصالحين، وعالجت روحه بالتزكية والتهذيب والتقويم، فحضته على استكمال شعب إيمانه والإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء واستشعار الخوف من الله والتعلق برحمته ورجاء فضله ولزوم التوبة والاستغفار، وهي خصال تطهر النفس وتثبت القلب وتنقيه مما فيه من غل ودرن، وعالجت بدنه برعاية صحته وحمايته من المؤذيات والمفسدات، والعناية بتغذيته ولباسه ومسكنه وراحته ودفع المشقة عنه. وأما الركن الثاني وهو الأسرة، فقد أقامها الإسلام على قواعد راسخة وربط بين أفرادها بحقوق متبادلة بينهم، تضمن للأسرة استقرارها وتحفظ تماسكها من التصدع والانشقاق، أما القواعد فهي: التراضي بين الزوجين فلا إكراه لأحد الطرفين على تقبل الآخر إلا برضاه وطيب نفس منه، والتكافؤ بين الزوجين في الدين والخلق على الأقل وفي الوضع الاجتماعي على الأفضل والأكمل، والوفاء بالشروط التي بنى عليها عقد النكاح ، والميثاق الغليظ أو العقد القائم على أركانه الأربعة المعروفة. وأما الحقوق فإنها متبادلة بين أفراد الأسرة، فللزوج حقوق على امرأته وللمرأة حقوق على زوجها، وللأولاد حقوق على والديهم، وللوالدين حقوق على أولادهم، ولذوي الأرحام أيضا حقوق جارية فيما بينهم، فإذا أدى كل فرد في الأسرة ما عليه من حق لصاحبه تحقق لأهل البيت ما قرره سبحانه وتعالى بقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). ب في الأمة والجماعة وأما الركن الثالث وهو الأمة، فقد أراد الإسلام لأمته أن تكون متماسكة مترابطة الأعضاء شديدة الأسر، قوية البأس عزيزة الجانب، فوضع لتحقيق هذا المقصد جملة من المبادئ والتشريعات، منها مبدأ الأخوة بين أفراد الأمة (إنما المومنون إخوة). ومنها مبدأ الحب المتبادل بيم أهل الإىمان، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) (لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا ولا تومنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم). ومنها مبدأ الولاية بين المومنين، رجالا ونساء (والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض... الآية). ومنها نظام الحقوق الواجب تبادلها بين المسلمين، كإفشاء السلام ونصر المظلوم وإجابة الدعوة وعيادة المريض وغير ذلك مما هو منصوص عليه في الكتاب والسنة. ومنها نظام التكافل إذ فرض الإسلام على أهله أن يتولى قويهم ضعيفهم ويقوم غنيهم بفقيرهم ويكفل كبيرهم صغيرهم، وقد وضع في هذا الصدد عدة تشريعات تجعل هذا التكافل حقا إلزاميا وليس عملا تطوعيا مرهونا باختيار فاعله. ج في الوطن وبناء الدولة ومنها تشريع قيادة واحدة للأمة، (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) وذلك لأن تعدد القيادات يفضي إلى تمزيق وحدة الأمة وتقطيع أوصالها وإضعاف شوكتها، كما هو واقع المسلمين في هذا العصر وقبله بعصور. ومنها إقامة الحكم على العدل والشورى وأداء الحقوق وطاعة أولي الأمر والمودة بين الراعي والرعية، والثقة القائمة بين الطرفين، (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل... يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...الآيات) (خير ولاتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم) أي تدعون لهم ويدعون لكم، (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) أي إذا فقد الثقة من رعيته وطلب عثراتهم وعوراتهم أفسدهم عليه، فاتخذوه عدوا لا يأمنون مكره وأذاه). (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم... الآية). ومنها الأمر ببناء القوة العسكرية والإنفاق على صناعة السلام وإعداد الخبرة والمهارة في الجنود، (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وفسر النبي صلى الله وعليه وسلم القوة بأنها الخبرة والمهارة فقال: ألا إن القوة الرمي. ولو أقامت الأمة الإسلامية هذه المبادئ بصدق وإخلاص لنالت ما كتب الله لها من عزة وسلطان وسؤدد بين أهل الأرض، وعد الله لا يخلف الله وعده. وأما الركن الرابع وهو الأرض والدار، فأرادها الإسلام أن تكون منيعة الحدود محمية الثغور، حتى لا تكون طعمة سائغة للغزاة، ولا يجرؤ العدو على مباغتة المسلمين بهجوم لم يعدوا له عدة، (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم). (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا...) والمرابطة إقامة الجند على أطراف أرض الإسلام وحمايتهم لحدودها تثبيتا لأمن الأمة وصيانة استقرار البلاد واطمئنانها. وأن تكون وطن كل مؤمن ومستقرا لأهل الإسلام يأوي إليها من شاء من المسلمين ليكثروا سواد إخوانه ويقيم دينه في أمن واطمئنان، (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا). ه في الحفاظ على الدين وأما الركن الخامس وهو الدين، فإن الدولة في الإسلام تقوم على أسس الدين وتحكم بشريعته وتجري حياة الناس فيها على نظامه وأحكامه، وبذلك يجتمع شملها وتتآلف قلوبها ويتماسك أفرادها فتكون كالجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم... الآية). (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) وما شرع الإسلام الجهاد إلا لإعلاء كلمة الله في الأرض وبسط دينه بين الناس ووضع نظامه وشريعته في حياتهم ليقوموا بالقسط ولينعموا بالحياة الطيبة التي وعد الله عز وجل بها عباده الصالحين، إذ قال: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى). تفريط المسلمين إنه عرض وجيز ونظرة خاطفة عن ملامح السياسة الشرعية التي تقوم عليها دولة الإسلام، وتنتظم بها حياة الأمة الإسلامية، ولقد أتى على المسلمين حين من الدهر عاشوا فيه تحت كنف هذه السياسة آمنين مطمئنين ينعمون بعيش رغيد وحياة كريمة ومنزلة سامية بين أهل الأرض، أما اليوم فقد زاغ عامة المسلمين عن المحجة البيضاء وتفرقت بهم السبل عن الحق فقام الجاحدون فيهم ينادون بفصل الإسلام عن السياسة وعزل الدين معن الدولة (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول). عبد الباري الزمزمي