عندما يتكرر من العبد، أثناء صيامه، الرفض الخفي، الذي لا يطلع عليه أحد سوى الله، لإسكات جوعته وإرواء عطشه وقمع نزوته، يكون في حالات تدريبية، يتعلم فيها كيف يحرر قصده/نيته ليكون لله لا لغيره ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)). وفي هذا مخالفة لأخطر عادة وأرسخها في نفوس العباد كل العباد إلا من رحم الله، وقليل ما هم، وهذه العادة هي فعل أكثر الأعمال بلا وعي ولا قصد ولا هدف واضح. وغياب الوعي والقصدية والهدفية، يعني غياب الإرادة القوية المبادرة لصالح الإرادة الضعيفة الواهنة، التي تنفعل أكثر من أن تفعل.. وهذه العادة إذا اتسعت دائرتها في أمة من الأمم وصارت عندها ظاهرة اجتماعية بارزة، وثقافة راسخة، فقد تُوُدِّع من هذه الأمة، فهي أبدا في تقهقر وانزلاق إلى قاع هوة التخلف السحيقة. وحتى تتضح الفكرة أكثر، نضرب بعض الأمثلة من مجريات اليومية: فمثلا عندما يهم رب البيت أو أحد أبنائه بالخروج من البيت، فيُسأل: إلى أين أنت ذاهب؟ فيجيب: غَانْدير/غَانْجيب شي دْوِيرَة.. وهناك جواب آخر يتردد على ألسنة الناس وهو: غا نْدوز الوقت. وهناك عبارة أقبح منها وهي: غا نقتل الوقت.. والعجيب في مثل هذه العبارات وغيرها، أن تركيبها يتضمن قصدا وهدفا كعادة كل كلام، لكن المفارقة هي أن قصدها هو نفي القصد الواضح من فعلها، وهدفها هو السعي بلا هدف.. وهكذا إذا تأملنا حياة الناس اليومية سنجد أعمالهم، إما فاقدة للقصدية والهدفية، وإما أنهما ضعيفان، تافهان.. يصدق هذا على الأمثلة المسوقة وعلى غيرها في مجالات كثيرة.. كعادة الناس في المأكولات والمشروبات، فالغالبية الساحقة منهم، تكون شهواتهم خارج سيطرتهم، بل تصبح هي المسيطر الأول عليهم لدرجة استعبادهم فيأكلون فوق حاجتهم بنهم شديد.. بالصيام الرمضاني الواجب على المكلفين و معه صيام التطوع، نتربى على مخالفة عادة إهمال القصد والتهاون في استحضاره وتحريره. وأول مقام يتحرر فيه قصدنا هو مقام الاستجابة لشهوتي البطن والفرج. ولعل هاتين الشهوتين هما مدار الأنشطة الحياتية الإنسانية والحيوانية.. وفي الهدي النبوي توجيهات تربوية تمدنا بالمعايير المساعدة على تحديد قصودنا وتحريرها عند الإقبال على شهواتنا، فعَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : { مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ؛ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ } رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني. فالحديث يقول لابن آدم: كل ما يقيم صلبك وكفى.. وإلا صارت الزيادة شرا ووبالا عليك.. والزيادة تجاوز يوقعك فيه تعاطيك لشهواتك بهواك لا بعقلك ودينك.. والذي يضبط الهوى وينتصر عليه هو إعمال العقل بإخلاص وصدق.. الإخلاص الذي يفجر نبعه فينا الصيام أكثر مما تفعل أي عبادة أخرى. وهذا ما كان عليه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال جمهور أصحابه، وقد أحسن التعبير عن حالهم عمر بن الخطاب بحكمة بليغة صارت مثلا يضرب وهي: ((أكلما اشتهيتم اشتريتم)). قالها مستنكرا على أحدهم اشترى اللحم من السوق ثلاثة أيام متتابعات. فلما سأله عمر في المرة الثالثة عن سبب ذلك. أجاب: اشتهته نفسي، فأجابه عمر بحكمته الاستنكارية تلك. ومن يستطيع معرفة ثلث الطعام من ثلث الشراب من ثلث النفس؟ وكيف له أن يضبط شهوته التي غالبا ما ألفت الخروج على السيطرة؟ لا يستطيع هذا المسلك وينضبط له إلا عبد أحسن القيام بشعيرة الصيام.. لأن صيام يربي المكلف على الاستغناء عن الضرورات لنصف يوم تقريبا، ويبعدها عنه رغم جوعه الشديد وشهوته الشرهة.. وإذا وفق إلى تحرير نفسه منها، رجع إليها بإرادته وهو الذي يحدد سياسة التعامل معها: يعرف متى يأكل ومتى يمسك.. وتصدق عليه المقولة الشهيرة التي تقول: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع).