في رمضان يكتشف العبد أن له قدرات ذاتية وطاقة تغييرية كان يجهلها من نفسه طوال أحد عشر شهرا.. و تظهر هذه القدرات على مستويين: ظاهري وباطني.. فأما على المستوى الظاهري، فتتجلى أول ما تتجلى في تغير نظام دورته اليومية وبرنامجها.. فبعدما اعتاد تناول في الحد الأدنى وجبات غذائية صباحا وظهيرة وعصرا مع شيء كثير أو قليل من الإفراط في تناول الطعام؛ يصبح برنامجه الرمضاني اليومي هو الإجهاز شبه الكلي على هذا المعتاد الذي سار عليه السنة كلها، واستبدال به برنامجا صارما يجعل العبد يمتنع عن شهوتي البطن والفرج نهاره كله، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ولعل أهم درس يستفيده الصائم المستبصر من هذا التغير في نظام دورته اليومية وبرنامجها الغذائي، أن ممارساته اليومية أغلبها عادات وتقاليد قابلة للتبديل أو التطوير، وليس له أن يتمسك بها كما لو كانت من ضرورات حياته.. فإن امتحن بشيء حال بينه وبين الجري على تلك العادات، فعليه أن يصبر ولا يظهر ضجرا ولا تبرما بمن كان سببا في تعطيل عادات دورته اليومية، أو بعض منها. وليتذكر قبوله ورضاه بالتجميد الرمضاني لعاداته وكثير من مألوفاته، مدة شهر كامل.. أخرج مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي عائشة في غير رمضان فيقول: ((هل عندكم غذاء؟ وإلا فإني صائم)). فمن خلال هذا التصرف النبوي نتعلم كيف كان حضور الصوم في حياته صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يستخدمه في صناعة المواقف الإنسانية الرفيعة، حفاظا على علاقاته بالآخرين من أهل بيته أو غيرهم.. فمن قوله: ((وإلا فإني صائم)) نتعلم كيف نسلط ثقافتنا الرمضانية الربانية على عاداتنا وتقاليدنا حينما نشعر أن تمسكنا بها قد يكون سببا في إفساد علاقاتنا بالآخرين.. ومعظمنا جرب أو سمع أن من الموظفين من يقف بين يديه أحد المواطنين الزبناء، فيعتذر له بأنه حان وقت غذائه ولن ينظر في أي ورقة حتى يتناول غذاءه كاملا وعلى مهله.. وقد يستجديه الزبون ويتوسل إليه، لأنه مستعجل ولم يبق له وقت كاف لإتمام ملف تتعلق به مصالح مهمة.. وإذا انتظر إلى ما بعد تناول الموظف المحترم غذاءه ضاعت تلك المصالح يقينا.. ومع ذلك يصر الموظف على تناول طعامه في وقته المعتاد وعلى طريقته المألوفة لديه، بدعوى أنه إذا خالف عادته المعهودة ولم يتناول طعامه في وقته، فقد الإحساس بالجوع وذهبت عنه شهية الأكل، وقد يضطر للانتظار طويلا ليحس جوعا وتحضره الشهية.. وهكذا يصم أذنيه عن استجداء المواطن المكروب وتوسلاته، وينهض ليمارس عادته اليومية في الطعام كما يفعل المدمن على المخدرات، إذا دار الزمان دوته ووقف به عند اللحظة التى يحتاج فيها إلى جرعاته المعتادة.. ولو استبصر الموظف المسكين في الثقافة الرمضانية لأبصر أنه بإمكانه أن يستنجد بشيء من صبره الذي كان يصبره على ترك شهوتي البطن والفرج طول اليوم، وتقوى به على ترك عادته وتأخيرها نصف ساعة أو ساعة على الأكثر في سبيل قضاء حاجة أخيه المواطن الملهوف.. وإذا استحضر إلى جانب استنجاده بثقافة صبره الرمضاني، وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين بقضاء حجات بعضهم البعض، كقوله في الحديث الذي رواه مسلم: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...))؛ إذا استحضر هذا قوي صبر وانصرف إلى خدمة أخيه المواطن وتفريج كربته، ولم يلتفت إلى عاداته في الطعام في مثل هذه الأحوال ما تكررت. وعندها يحس بأنه يمارس وظيفته من موقعين متعاضدين، موقع عبوديته لله، وموقع إنسانيته التي أكرمه الله بها فجعله خليفة وسيدا لهذا الكون بكل ما فيه.. وما يصدق على مثال الموظف يصدق على غيره من العباد كل واحد حسب ظروفه واستبصاره فيها..