كثيرة هي تلك التعاريف التي حاولت وصف ظاهرة الإدمان وتعريفها، ولعل أهمها وأشهرها هذا التعريف: الإدمان انجذاب ورغبة ـ نفسية ـ غير طبيعية ولا متناهية لتناول مادة ـ أو مواد تعرف عليها ـ الفرد ـ عن طريق الآخر أو تعمدهـا ـ مخدرة من أجل إدراك لذة أو تحقيق حالة نشاط وحيوية في بعدها النفسي والجسدي والاجتماعي. هذا الانجذاب سرعان ما يتحول إلى عادة يومية قاهرة لا يُستغني عنها. فإذا ما وصل ـ الفرد ـ إلى هذه المرحلة ( مرحلة الارتباط ) يصبح مفعول الكمية المستهلكة يوميا غير قادر على إحداث حالة النشوة المرجوة، لذا يتزايد قدر الكميات المستهلكة يوما عن يوم إلى أن تُدرك مرحلة الجرعة القاتلة. أما خبراء المنظمة العالمية للصحة (م ع ص)، فقد اقترحوا سنة 1969 مصطلح الإدمان العقاري، والذي يعني: حالة نفسية ـ وفي بعض الأحيان جسدية ـ تنشأ عن ذاك التفاعل المتبادل الذي حصل بين جسم حي وعقار ما. هذا التفاعل يتميز بإحداث تغيرات على مستوى السلوك تدفع أبدا المستعمل إلى تناول هذا العقار باستمرار أو مرحليا طلبا لمفعوله النفسي وتفاديا لألم المعاناة الناتج عن الامتناع. وربما نجح الشخص في تحمل ألم هذا الامتناع أو قد يفشل في ذلك. من الناحية التحليلية لا يمكن الحديث عن وجود شخصية مدمنة، ذلك أن الإدمان يعتبر اضطرابا سلوكيا مقارنة باضطراب الشخصية (ذهان، عصاب مثلا)، لكن بالإمكان الحديث عن وجود شخصية كامنة ومؤهلة لها استعداد قبلي كي تصبح شخصية مدمنة. هذا القول يعني أن الإدمان لا يحطم الأنا الشخصي للفرد، كما أنه لا يستطيع تغيير هذه الشخصية واستبدالها بشخصية أخرى، وإنما بإمكانه أن يفجر الشخصية الكامنة والحقيقية للشخص. هذا القول يعني أن تاريخ المدمن يتحدد منذ الوهلة الأولى بطريقة معينة إذا ما توفر لذلك شرطان اثنان: * المادة المخدرة: المخدر كمادة وجدت قبل وجود المدمن، وهي ستوجد في كل مكان وفي كل زمان وستوجد إلى الأبد. * لحظة اكتشاف المخدر: ونقصد باللحظة الحالة المزاجية التي كان عليها المدمن حين تعاطيه للمخدر أول مرة أو حين معانقته له (لحظة حزن أو لحظة فرح). هذه المعادلة يمكن تلخيصها في السياق التالي: إذا ما تحقق التقاء شخصية هشة بمادة مخدرة في لحظة مزاجية معينة بات مؤكدا بأن هذا الترابط الوثيق والمستمر بين هذه المعطيات الثلاثة سينتج عنه في المستقبل القريب شخص مدمن. هذا الطرح يجعلنا نعتبر الإدمان أو الارتباط خضوعا لا نتيجة، لكونه يمثل جسرا بين طرفين المدمن والمادة. إن معاناة هذا الخضوع لا ندرك كنهها إلا حينما يقرر المدمن التوقف أو بالأحرى يحاول الإقلاع عن الإدمان، لكن هذه الجولة سرعان ما تنتهي بانهزامه أمام المخدر. هذا الفشل وذاك الانهزام يشكلان مع المدمن ثنائية فظيعة ومرعبة وإن كانت تضمن له عدم البقاء لمفرده. في هذا الاتجاه المتأزم وبهذه الطريقة الانهزامية يتحدد مصير المدمن وربما إلى الأبد. كذلك يجب أن ننظر إلى الإدمان ليس فقط في كونه عملية ارتباط بمخدر ما، بل يجب أن ننظر إليه في بعده الرمزي، هذا البعد الذي يحمل في طياته خطابا غير مباح به وكلاما مسكوتا عنه خاص بالمدمن لا يعرفه إلا هو. هذا المسكوت عنه ربما يمثل تلك اللذة المزخرفة بتخيلات وتهيؤات المدمن، والتي يعيشها على مستوى اللاشعور، أو ربما يمثل تلك الهاوية بالمقارنة مع القمة شهر العسل يوم أن عانق المخدر لأول مرة، فاحتفظ في مخيلته وخزن في ذاكرته تلك الصورة المثالية لهذه اللذة وبالغ في تقديرها إلى الأبد. ومنذئذ، ومن خلال بحثه وتعامله المتكرر مع المخدر طيلة تاريخه المرضي، يسعى المدمن لبلوغ هذه اللذة، لكنه يفشل في تحقيق ذلك، ولا تلبث أن تثور ذكريات وبقايا اللذة الأولى ضد كل شيء وتدخل في صراعات لا تتوقف ضد كل لذة تعقبها باعتبارها مجرد نسخة عنها لا غير. هذا الإحباط في عدم قدرته وعدم استطاعته الوصول إلى معانقة تلك اللذة مرة أخرى، تحمله على التعلق بلذة صغيرة وهزيلة لكنه يعتبرها ـ في غياب الأولى ـ لا متناهية، لهذا السبب يستمر في طلبها إلى ما لانهاية لعله يدرك الأولى. وسط هذا الهوس المحموم وراء طلب هذه اللذة، وفي خضم ذاك الشوق لمعانقتها، تنبعث الحاجة إلى المخدر وتنتصب من جديد وبصورة أعمق من ذي قبل، وإن كان هذا الاحتياج في الأصل موجودا في مراحل سابقة وقديمة، وبالضبط منذ مرحلة المرآة المنكسرة. في ظل هذه الظروف ينسى المدمن مصيره المأساوي، فيدفعه ذلك إلى القيام بجميع المغامرات: إتيان المحارم من قريب أو بعيد، انتهاك القانون وخرقه باستمرار من قبيل السرقة الموصوفة والإفراط في تعاطي الجنس بشتى أنواعه، خصوصا حين تعاطيه الجنس بطريقة سلبية محاولة منه أن يجد في عملية التناوب الجنسي ما يكمل هويته التي نسفت منذ مدة. بوصول المدمن إلى هذه المرحلة يكون قد تجرد من كل ذكاء، ومن كل علاقة سببية، ومن كل منطق؛ ليعيش قمة اللذة وكأنه في المدينة الفاضلة، حيث يطغى الغرض على الذات. على الرغم من هذه الانتهاكات وتلك الخروق سيظل بعيدا عن النوع البشري في جنسيته، في استيهاماته، في ساديته، وفي مازوخيته، ولن يتمكن أبدا من تجميع ذاك الشتات المنبعث من تلك المرآة المنكسرة. من هذا القرب ومن ذاك البعد، من هذه الخروق القانونية غير المبررة تنبثق ضرورة الارتباط، والذي يهدف إلى إبقائه بعيدا عن كل هذا وذاك، هذا الإبعاد لن يزيده إلا يأسا وعجزا. إن المدمن يعيش معاناة واجترارا نفسيا: لذة / ألم، وعي، لا وعي، حياة شبيهة بمقابلة كرة الطاولة: ترقب دائم وانتظار مستمر لمن ستؤول الغلبة (للمدمن أو للمخدر)، هذا الترقب يكون خصوصا من قبل الأم ـ أول معادلة في هذا اللقاء ـ (قمة / هوة)، والتي تعيش هذه الوضعية مع المخدر باستمرار. هذه المعاناة كلما كانت عميقة كانت اللذة المطلوبة أعمق؛ في حين موضوعيا يصبح المدمن في طريقه إلى الموت الجرعة القاتلة. هذا القول يجعلنا نؤكد أن الإدمان ظاهرة نفسية فاعلة وإرادية مرجعيتها أن أي إدمان ما هو إلا قناع يلبسه المدمن كي لا يرى حقيقة أمره أو وجهه في المرآة التي انكسرت منذ فترة، لكونه غير راض عن نفسه وعلى الطريق الذي يسلكها في هذه الحياة، وإن كان يعتبر إدمانه خطأ حسنا عكسته المرآة، أو أنه طريقة في العيش تمكنه من تفادي مواجهة نزيف الشك المتمثل في تلك الأسئلة التي كان يعيشها منذ أن انكسرت المرآة وقبل معانقة المخدر لأول مرة من قبيل: أكون أو لا أكون، أحب أو لا أحب، أكون ذكرا أو أكون أنثى... لهذا يعتبر تناول المخدر امتيازا ويسعى جاهدا في طلبه واستعماله، أو بالأحرى يتمنى ألا يبطل مفعوله أبدا لكونه الوسيلة الوحيدة التي لها هذه القدرة على تغيير حياته النفسية وعلى إيقاف نزيف تلك الأسئلة وتحريره من مخاوفه، ومن استيهاماته، ومن مركب النقص، ومن صور جزئية زائدة تكونت منذ الشرخ الأولي للمرآة. إن الارتباط أو الإدمان هو ذكرى حركية، أو بالأحرى هذيان انحرافي وحركي يقوم بدور يتمثل في التعبئة وفي التبادل، إذ بدونهما يجد المدمن نفسه في مواجهة تاريخه المرضي. لهذا السبب يجب ألا نتعامل مع الإدمان على أنه ظاهرة مرضية فقط، بل يجب التعامل معه على أساس أنه يحمل في ذاته دلالة رمزية وأن أي علاج غير ممكن إلا إذا استطعنا فك رموزه بهذا المعنى يصبح الإدمان هو النزول إلى درك الحضيض من أجل الوصول إلى درجات القمة: الجنة المفقودة.