لنقترب أكثر من الأساس العقدي والتعبدي للنسق التنظيمي، وذلك بمقاربة الموضوع من خلال الفعل الاجتماعي للإنسان المسلم كفرد، ولجماعة المسلمين كجسد اجتماعي منظم/تجمع حركي عضوي.. ونبقى مع الكلمة المفتاح: التسوية.. هذه الكلمة القرآنية التي تؤطر ما أرادنا الله أن نفهمه عنه من علم يخص علاقة الروحي بالجسدي، وكيف نفهم طبيعة هذه العلاقة، ونبني عليها حياتنا الدنيوية موصولة بحياتنا الأخروية، في تناغم وتناسق لا نهاية لإتقانه، يبدو معه أنه ليس طبيعيا انفصال إحدى الحياتين من الأخرى.. سنقف عند الرؤية الإسلامية للتسوية/التنظيم الفردي الذاتي، ثم نمر بعد ذلك إلى التسوية/التنظيم بمعناها الجماعي.. كل ما في الكون خاضع لسنن التسوية الإلهية، من الذرة إلى المجرة، ومن الجماد إلى كل طبقات الحيوان.. وكل موجود له تسويته الخاصة به كفرد وبجنسه كجمع.. و(التسويات) كلها خاضعة لتسوية كونية إلهية جامعة.. والإنسان المسلم الفرد هو الأقدر على إدراك تسويته(نظامه) الذاتية الخاصة به، وإدراك علاقاتها بكل التسويات الأخرى التي له تماس بها وتفاعل معها، قريبةً كانت أو بعيدةً، صغيرة أو كبيرةً، وصولا إلى التسوية الكونية.. وعلى قدر تمثله للتبصير القرآني واتباعه للهدي النبوي ووعيه بواقعه وموقعه في الحياة الدنيا، يقوى استيعابه لتسويته الذاتية ولعلاقاتها بباقي التسويات، بنظر نسقي جامع.. فالإنسان الفرد في التبصير القرآني قائم على تسوية دقيقة معجزة تشمل جانبه الجسدي/المادي وجانبه الروحي المعنوي.. فبالنسبة للجانب الجسدي/المادي، بالإضافة إلى الآيات التي سبق ذكرها، نذكر إلى جانبها، الآيات التالية: ـ { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } (الكهف/ الآية: 37). ـ{ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَان أَلَّنْ نَجْمَع عِظَامه؟ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانه } (القيامة/ آية: 3 ـ 4). ـ { أَيَحْسَبُ ؟لإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى }(القيامة/ آية: 35 ـ 39). ـ { ياأَيُّهَا الإِنسَ إنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } (الانفطار/ الآية: 6 ـ 8). من أهم الاستنتاجات التبصيرية القرآنية من هذه الآيات أن من فضل الله الكريم على المخلوق الآدمي، أنه سوّى خلقته وأحسن تسويتها وجعلها له دليلا وحجة على منافعه الدينية والدنيوية.. فبإدراكه لتسويته (نظامه) الذاتية يعرف حقيقته الوجودية وأنه لم يخلق عبثا ولا سدى وإنما خلق لغاية وجودية عظيمة، هي عبادة الله بمعناها الشمولي.. ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون.)) (المؤمنون/ 115).. ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون..)). وعلى حسب علم الآدمي بتسويته الجسدية والقوانين البيولوجية المنظمة لها، يتأهل لمعرفة كيفية التعاطي مع أحوال الجسد وتقلباتها، سواء منها الأحوال الدائمة أو الأحوال الطارئة.. ولولا التسوية لما كان طب و لا صيدلة ولا أي علم من العلوم المتمحورة حول الجسد.. لأن الفوضى التي هي نقيض التسوية لا تنتج علما، وإنما تنتج جهلا وضياعا.. هذا باختصار شديد عن التسوية الجسدية/المادية حسب الإشارات التبصيرية القرآنية.. ولنقف الآن عند الجانب الروحي/النفسي/المعنوي.. ـ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس/ 7ـ 10). ـ { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى؟ وَجْهِهِ أَهْدَى؟ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (الملك/ 22). (ونفس وما سواها) إن التسوية التي أقامت الجسد المادي على نظام وقوانين ضابطة لحركيته الداخلية والخارجية، هي نفسها أو شقيقة لها، تحكم عوالم النفوس وتضبط انفعالاتها الداخلية و تفاعلاتها الخارجية.. ولهذا قد أفلح من أدرك حقيقة تسويتها/نظامها، فزكاها وسار على هديها ملتزما الصراط المستقيم، { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى؟ وَجْهِهِ أَهْدَى؟ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.. وأبلغ النفوس وأزكاها، وأكملها تسوية/نظاما نسقيا، على الإطلاق هي نفس الرسول صلى الله عليه وسلم.. فبقراءة ـ ولو سريعة ـ لسيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم، ندرك التسوية (النظام) الذاتية المعجزة التي تحلت بها الشخصية المحمدية الشريفة.. وإذا جعلناها مرآة لنا واقتدينا بها، عرف كل واحد منا، كيف يدرك تسويته النفسية/المعنوية الذاتية الخاصة، وكيف يديرها ويطورها، ويتفاعل من خلالها مع باقي التسويات الفردية والجماعية والكونية.. بل ويعرف، أولا وقبل كل شيء، كيف يدرك تسويته الجامعة والناظمة للجسدي بالروحي. أي، يدرك العلاقات الطبيعية/الفطرية بين التسوية (النظام) الجسدية والتسوية (النظام)، والقانون الضابط لهذه العلاقات.. نكتفي بهذا القدر اليوم ولنا في الحلقة القادمة وقفة مع التسوية المحمدية النموذجية التي يجب علينا الاقتداء بها، لأنها تسوية كاملة في حدود الإمكان البشري..