إدراكا لأهمية التخصص، يجب علينا كمنتمين لتيار اليقظة الإسلامية أن ندرك مقدار التحدي الموضوع أمام توسع الظاهرة الإسلامية وتغلغلها في بنية المجتمع المعاصر، خاصة بنيته الثقافية، ولا مجال لمواجهة هذا التحدي وتجاوزه باقتدار ونجاح دون العمل على تشجيع الكتابات الإسلامية المتخصصة. أجل إن الحديث عن ضرورة التخصص قد قيل كثيرا، لكن قلما رأينا ثمار هذا القول على مستوى التفكير وأسلوب الكتابة. إذ لا زلنا نقرأ لعشرات الأسماء دون أن نلحظ تعمقا في دراسة فكرة أو في نقد شبهة أو في إيضاح موقف. فما زلنا نرى القلم الإسلامي ينزلق إلى موضوعات ومجالات فكرية متعددة، ويقفو فيها بغير علم. فيأتي عطاؤه نموذجا في السطحية والتعالم. وهناك بعض كتابنا المعاصرين يجتهد للكتابة في كل مجال بأسلوب ألمانيفستو الإيديولوجي الذي أكل عليه الدهر وشرب، ويحسب ذلك العطاء بناء لموسوعة إسلامية لا تبقي ولا تذر! ويظن أنه بذلك قد أقام فهما إسلاميا موسوعيا لم يترك مجالا إلا وحدد فيه فصل المقال! بينما الحقيقة أنه قدم جهلا موسوعيا لم يترك تخصصا إلا وحشر فيه رؤية ساذجة تثير السخرية والاحتشام. ولا ننسى شرائط كاسيت ومقالات وكتابات لخطباء وعلماء أجلاء مشهود لهم بالصلاح، ونستشعر في قلوبنا تجاههم كل تقدير واحترام، لكننا نعيب عليهم ما ينزلقون فيه، في كتاباتهم وشرائطهم تلك في تجاوزات تخرق أصول العلم وأبجديات آدابه، إذ تراهم يتحدثون عن نظريات في علوم الفيزياء والبيولوجيا والنفس والاجتماع بتسيب فاضح، ويهدمون مذاهب ونظريات ببضع كلمات مرتجلة لا أساس لها ولا مسوغ! الأمر الذي يستوجب نقد هذا التطفل الفكري الذي يشوه الخطاب الإسلامي نقدا صارما. إننا نحتاج اليوم إلى كفاءات علمية تخصصية تستنزل المبادئ من مستواها النظري العام إلى مستوى التخصص بإنجاز برامج متنوعة يمكنها أن تتحول إلى التطبيق الواقعي وليست محتاجة إلى تلك الأقلام والشخوص الخطابية. العبقرية التي تتحدث في كل شيء وتقدم على الفتوى في أمور الكون بأكمله: من حركات المجرات داخل الفضاء إلى حركة الإلكترون داخل الذرة! وأتساءل: كيف نعالج هذا التعالم والتطفل الفكري؟ لا أثق في تقارير ذات ديباجات وحيثيات وتوصيات ورقية، لأنها دعوات لا تجاوز مساحة الورق وجدران المؤتمرات. لذا لن أقدم في هذه السطور سوى دعوة بسيطة تختص بالتوجه إلى الإعلام الإسلامي ليمارس حزما وجدية تجاه ما يقبل نشره. إذ حين يلتزم الجهاز الإعلامي الإسلامي، وتتفق مؤسساته على عدم إجازة أسلوب الكتابة العائمة التي تحترف فن الاجترار والتكرار، سيضطر القلم الإسلامي إلى استشعار مسؤوليته، فيتخصص في مجال معرفي محدد، أو جغرافية سياسية معينة، ويستجمع النصوص والوثائق ويعمق الاطلاع، ويجعل تخصصه شاغله اليومي، وميدان كتابته. ومن ثم سيبدع ويضيف ويعطي، لأنه يعلم أنه لو كتب ذلك النمط من الكتابات العامية المكررة، فلن يجد من يسمعه ولا من ينشر له. كما يجب على شعب وأقسام الدراسات الإسلامية في الكليات والجامعات أن توجه بحوث الطلبة وموضوعات الندوات وحلقات البحث نحو المجالات المعرفية التي نستشعر فيها نقصا، مع التشديد على وجوب الالتزام بالشروط والمعايير العلمية في معالجتها. وخلاصة القول: لقد أصبحت اليوم في حكم المستحيل الإحاطة الفردية الموسوعية، والذي يزعم لنفسه امتلاك فكر موسوعي، ففكره ليس إلا خطوطا عامة، والتقاطا لمبادئ معرفية متفرقة، وانزلاقا على السطوح لا غوصا إلى الأعماق، فحري بنا أن نسميه جهلا موسوعيا لا فكرا موسوعيا!