هي من دخل البيت بالقوة والفعل، هي من ارتبطت وشائجها بكل ركن من أركان البيت فكانت تعكس صورة الثابت فيه، أما المتحول فيه فكان الأبناء والأحفاد الذين يدخلون ويخرجون مفتونين بتبعات الحياة ودوامة الروتين. هي من بقيت هناك في ركن قسي من البيت ترقب البعيد والقريب، تقارن بين الأمس واليوم، تعد الثنائيات الضدية، تسخر من أصباغ الحضارة المزيفة، وتتحسر عاى كل ملهوف راكض وراء بريق الحضارة. هناك والسبحة في يدها توجه النصح الخفيف لابنتها، وتقدم خدمات بسيطة في المطبخ من تقشير للفاصوليا وتنقية للعدس أو الارز إلخ. ثم تنهض بين الفينة والأخرى تساعد حفيدها على المشي وهو يِدي خطواته الأولى في صحن البيت خائفة عليه من سقطة مفاجئة وتنشد بصوتها الرخيم : ( دادوش دادوش يكبر ولدي ويعيش، يكبر ويربي الريش،دادوش دادوش...) وتملء هذه السانفونية البيت بهجة وسرورا لأن الأم مشغولة كل اليوم لم تعد تهتم حتى بهذا الصغير الدي تركت كل أموره وتدبير متطلباته للجدة( أمها). أكتب على هذه المرأة أن تربي أبناءها وتبعث بهم سالمين غائمين إلى معترك الحياة لتعود فتلقف أبناءهم (أحفادها ) مرة أخرى ؟ والفرق بين هذه وتلك أن الصحة حضرت في الأولى وغابت في الثانية.لقد نالت منها السنون وأنهكت قوامها وشفطت نضارتها ومع ذلك هاهي تحرص الأبناء ترعاهم تحنو عليهم وتغمرهم بحكاياها الليلية، لقد تعودوا كلهم أن لا نوم إلا من بعد جرعات تراثية مدروسة فيستشفون منها منبع الحكمة وسبيل الخير. وأحيانا حينما يحلو السمر تجد نفسها مضطرة للجواب عن أسئلة تحير الصغار كمثل ( من خلق ماما ؟و بابا؟و أخي الصغير ؟و أنا؟ أين الله ؟ هل الخير معنا ؟ لماذا لا يموت الشر ؟...). يرقدون بعد سجال بينهم لتخلو بعد ذاك إلى نفسها، فعلى مصلاها تنخرط في صلوات وأذكار رددتها بلا توقف أياما وشهورا وسنوات،دعت فيها ربها أن يحفظ كل الأبناء والأولاد. وتنهدت بعمق وهي تتأسى على إبنها البعيد الذي لم يهاتفها منذ مدة، تمنت أن يكون المانع خيرا رغم أنها تعرف مسبقا أنه غارق حتى النخاع في مشاكل البيت والزوجة الأنانية (سامحك الله ولدي وهداك) تعود إلى فراشها ولا تكاد تغمض جفنها حتى يستيقظ الصغير باكيا فتهب إليه قبل أن تنهض أمه، تعطيه رضاعة الحليب، تهدهده إلى أن يغرق في نومه، نسيت نفسها بجانبه حتى أذان الفجر... وهكذا الليالي تلو الأخرى. أليست بحق هذه الجدة، هذه المخلوقة الملائكية رحمة بالبيت؟