لم يبق أمام الأممالمتحدة والعالم سوى نعي القانون الدولي الإنساني والإعلان عن إقبار سلطان أحكامه أمام هول المحرقة التي دمرت كل شيء في قطاع غزة. ففي زمن التواصل الرقمي، ورغم القبضة الحديدية لإسرائيل على مصادر تدفق الأخبار، شاهد العالم صوراً يعجز اللسان عن وصف فظاعتها، فقد قُطعت أجساد أطفال صغار لا تتجاوز أعمارهم بضعة أشهر وتناثرت هنا وهناك، وفي جل الأحوال استعصى على من تولى جمعها، لتلقى طريقها إلى خالقها، التعرفُ على قسمات أصحابها، بل إن أطفالاً بقوا أحياء ملتصقين بصدور أمهاتهم وذويهم بعد أن طاولهم حِمام الموت.. إنها الصورة المتكررة في ما يحصل في غزة منذ السابع والعشرين من ديسمبر 2008, فهل من فائدة متبقية في الحديث عن القانون الدولي الإنساني؟ تنهل أحكام القانون الدولي الإنساني مصادرها من سلسلة المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات التي تمَّ التوقيع والمصادقة عليها تباعاً من طرف المجتمع الدولي، من قبيل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 بشأن حماية ضحايا الحرب، والبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، والبروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية. والحال أن إطلالةً على مضامين هذه الصكوك تبين بوضوح أن المقاصد المستهدفة من القانون الدولي الإنساني هي تحديداً حماية المدنيين في فترة النزاعات المسلحة، وإن صنفت الوثائق أعلاه مجالات الحماية ونطاقها إلى مجموعات تشمل البشر والمنشآت والأماكن الدينية والرمزية وما يدخل في حكمها. فهكذا، قضت أحكام القانون الدولي الإنساني بحماية الوحدات الطبية المدنية، وأفراد الهيئات الدينية، وتحريم الإضرار بالبيئة الطبيعية، وحظر قتل الخصم أو إصابته أو أسره باللجوء إلى الغدر، وتحريم ردع السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين، إضافة إلى التشديد على حماية الرموز الثقافية وأماكن العبادة، وإرساليات الغوث، والنساء والأطفال، والصحافيين. والواقع أننا حين ننظر إلى ما ارتكبت إسرائيل من أفعال تدميرية منذ بداية الحرب على غزة نلمس جسامة الاستهتار بالشرعية الدولية وفي صدارتها أحكام القانون الدولي الإنساني. فعدد كبير ممن استشهدوا في قطاع غزة أطفالٌ ونساء وشيوخ وعجزة، كما قصفت المساجد ودور العبادة، ودمرت الحقول وتمَّ تجريفها بالكامل، وحوصرت منظمات الإغاثة، وقتل بعض أفرادها، وتم التنكيل بوسائل الإعلام والصحافيين، واستعملت المتفجرات المحظورة دولياً (الفسفورية والعنقودية)، وقائمة الممنوعات طويلة، ستكشف عنها الأيام القادمة في غزة، فإسرائيل لم تترك شيئاً إلا لجأت إليه واستعملته دون حرج أو تردد، ومع ذلك يُطِلُّ علينا عبر بعض الفضائيات الناطق الرسمي باسم مؤسستها العسكرية ليدافع عن +أخلاقيات؛ الجيش الإسرائيلي وريادته في الانضباط والالتزام بأحكامها في الميدان.. إنها قمة السفه، وما ذلك على السفهاء بعسير. لقد اعترفت المنظمات ذات الصلة بالقانون الدولي الإنساني بتعرض أحكامه للخرق، وعدم الاكتراث والتنكر المطلقين، ولم يكن مزعجاً لإسرائيل -ومداد القرار 1860 الصادر عن مجلس الأمن لم يجف بعد- أن تعلن على لسان رئيس وزرائها المستقيل إيهود أولمرت أن مصالحها العليا تقضي بمتابعة الحرب، وأن ليس هناك قوة في العالم قادرة على إجبارها على التوقف وقبول القرار الأممي. فهكذا، أوقفت +الأونروا؛ عملها بعد قصف مدرسة الفاخورة واستشهاد عشرات الأطفال المحتمين بجدرانها، ودعت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأممالمتحدة نافي بيلاي إلى إجراء تحقيقات مستقلة وذات صدقية في جرائم محتملة ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، متهمة إياه بجمع 110 مدنيين، نصفهم أطفال، في منزل ثمّ قصفه، مما أدّى إلى استشهاد ثلاثين منهم، كما عقد +مجلس حقوق الإنسان؛ التابع للأمم المتحدة مؤتمراً في جنيف وقف خلاله على الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة لحقوق الإنسان في غزة، والوقائع نفسها أكدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، والبنك الدولي، ومكتب الأممالمتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، وبرنامج الغذاء العالمي في روما، وكلها منظمات وهيئات من صلاحياتها المباشرة السهر على حسن تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني.. إنه إجماع المجتمع الدولي الفاعل في مجال حقوق الإنسان على مسؤولية إسرائيل الواضحة والأكيدة عن المحرقة التي لحقت البلاد والعباد في قطاع غزة. ومع ذلك يبقى السؤال الكبير: ما العمل لإيقاف الحرب الحمقاء الجارية دون هوادة في قطاع غزة، وما السبيل لإثناء إسرائيل عن الذهاب بعيداً في مسح قطاع غزة، أو ما تبقى من بلداته وقراه، من الجغرافيا الفلسطينية؟ إنه في الواقع سؤال الأسئلة، وفي ظل غياب موقف عربي منتصِر للحد الأدنى من متطلبات الأمن القومي، وصمتٍ دولي لدى البعض، أو انحياز مبطن لدى البعض الآخر، تبدو حظوظ التأثير في ميزان القوى العسكري المختل لصالح إسرائيل ضعيفة وغير واضحة المعالم، وحدهم الفلسطينيون يواجهون الآلة العسكرية الإسرائيلية بقوة الذات والعزيمة، وبعمق الإيمان والإصرار، وبوجاهة الإقناع بعدالة القضية التي ترتفع فاتورتها الإنسانية كل يوم، بل وفي كل دقيقة، ووحدهم الفلسطينيون يكتبون صفحات مضيئة في تاريخ الزمن العربي، المعتِم بتقاعس إرادات الفعل الجماعي، والمُحبَط بحسابات السياسة التي عزَّ عليها، في ظل استشراء العتمة في النظام العربي، أن تلمس الفيلَ كله، فمست ذنبه ليس إلا. ومما يزيد النفس حنقاً أن يبادر مسؤولون ونشطاء ومثقفون من خارج البلاد العربية، بل ومن داخل اليهود أنفسهم، فينتقدوا إسرائيل، ويصفوها بأدق الأوصاف، ويطالبوا بمقاضاتها عن أفعالها الإجرامية في حق الإنسانية، ويبقى النظام العربي منقسماً على نفسه، مستنكفاً عن الفعل، متردداً حائراً من أمره. إن أخطر ما يمكن أن يصيب الأمة ليس الهزيمة، أو الفشل في معركة غير متكافئة، ولكن الأخطر أن تهزم الأمة في فكرها، وإيديولوجيتها، وثقتها في شعوبها ومجتمعاتها، وأن تدب في نفسها روح الهزيمة، و +القابلية للاستعمار؛، على حد تعبير مالك بن نبي.