لم يكن جلعاد شاليط في بيته يشرب القهوة عندما اختطفه رجال المقاومة بعد عملية بطولية أذهلت العدو والصديق، ولم يكن يمارس الرياضة الصباحية في حديقة منزله، بل كان يقوم بعمله الاعتيادي في حصار الفلسطينيين وانتظار المشاركة في الوجبة التالية من دمهم المستباح. ليس بوسع أحد أيا كان أن يثبت أن شاليط لم يوغل في الدم الفلسطيني، فربما قتل طفلا أو طفلين، أو امرأة أو رجلاً أو حتى عددا من المقاومين، المهم أنه قاتل محترف يعمل لحساب دولة احتلال. مع ذلك، لا يكف العالم عن الانشغال بالسيد شاليط وحياته الغالية، ولا نبالغ إذا قلنا إنه أصبح أشهر من مادونا من كثرة ما تردد اسمه، فضلاً عن صورته البريئة الملامح في وسائل الإعلام، ولم يبق زعيم من زعماء العالم زار الدولة العبرية إلا واجتمع بذويه وأبدى تعاطفه مع معاناتهم، فضلاً عن الكثير من اللقاءات والاجتماعات التي استغرقت ساعات طويلة في البحث عن صيغة لإطلاق سراحه كي يعود لأهله بسلام وأمان. قبل أسابيع تسلم شاليط رسالة بعث بها إليه والده نوعام، ويتوقع أن يقوم بالرد عليها قريبا. وقد مرت الرسالة الرقيقة بمحطات عديدة قبل أن يقرأها صاحبها، فقد سلمت أولاً للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي سلمها في العاصمة السورية للرئيس السوري بشار الأسد، والذي قام بدوره بتسليمها لرئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، حمد بن جاسم، ثم قام هذا الأخير بتوصيلها لخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي أرسلها بواسطة جهاز الفاكس إلى عنوان في قطاع غزة. أما خبر استلام الرسالة من قبل صاحبها، فقد عاد بالطريقة نفسها، من آسريه إلى مشعل إلى القيادة السورية إلى باريس (المحطة القطرية لم تحضر هنا)، وبالتالي علم الوالد العزيز نوعام بوصولها. وتبقى الإشارة إلى قسوة قلوب الحمساويين وقائدهم الذين اكتفوا بتسليم صورة فاكس من الرسالة للشاب الطيب، بينما كان عليهم تسليمه الرسالة الأصلية حتى يشم من خلالها رائحة الأب الطيب والعائلة الثكلى! للشاب الوسيم في الأسر سنتان ونيف، بينما فاق عدد الذين أمضوا من الفلسطينيين أكثر من 15 عاما في الأسر الإسرائيلي 300 أسير، ولا تسأل عن المئات من المحكومين بالمؤبدات، ثم تذكر أن هناك 11 ألف أسير من بينهم نساء وأطفال، وأعداد كبيرة من أصحاب الأمراض المستعصية، ومن المعاقين حركيا وبصريا، وتذكر كذلك ما يعانونه من سوء معاملة، حيث يمنع كثير منهم من زيارة الأهل، بينما يرزح كثير منهم في زنازين انفرادية (لو وجد أسرى آخرون لدى حماس لما تركت شاليط يعاني الوحدة، ولو توفرت الإمكانية لخطف مجندة تصلح عروسا له، لما تأخرت كتائب القسام، ولربما وفرت لهما أجواء طيبة ومساعدات طبية للإنجاب أيضا!!). كل هؤلاء لم يحظوا بأية التفاتة من قبل الزعماء الأجانب الذين زاروا الدولة العبرية وعاصمة السلطة الفلسطينية العتيدة، في الوقت ذاته الذي لا تجد فيه قضيتهم أي مكان بين سلم اهتمامات الدول العربية، لا هم ولا أعداد أكبر من أمثالهم ممن تعتقلهم القوات الأمريكية ومن يعملون معها في العراق. الزعماء الأجانب إياهم لا يلتفتون كذلك إلى تفاصيل المفاوضات بشأن شاليط، حيث يرفض الإسرائيليون الإفراج عن حوالي ألف أسير مقابل إطلاق سراحه، لأن نسبة منهم يدخلون ضمن تصنيف دم على الأيدي، وهم الذين شاركوا في قتل إسرائيليين، لكأن الصراع القائم كان لعبة كرة قدم وليس احتلالا ومقاومة ودماء. حين نقول إن مجرد صمود الفلسطينيين وعجز عدوهم عن فرض الاستسلام عليهم هو إنجاز كبير يحسب لهذا الشعب البطل، فنحن لا نتجاوز الحقيقة، إذ أي شعب في التاريخ هو الذي واجه محتلاً له كل هذا النفوذ الدولي الذي يجمع الأبيض والأحمر والأصفر، ويحظى بدلال استثنائي في المؤسسات الدولية بكل أشكالها؟! أسرانا، وبدل أن يمنحوا ولو قليلاً من الأمل، تجد زعماء السلطة يهجون آسري شاليط ويحملونهم كل المعاناة التي أصابت الفلسطينيين بعد أسره، لكأنهم كانوا في خير عميم قبل ذلك. ثم ترى أولئك يستجدون من عدوهم الإفراج عن بضع مئات من الأسرى الذين تقترب محكومياتهم من الانتهاء، والذي يجري اعتقال عدد أكبر منهم في غضون أيام أو أسابيع. في لفتة بمناسبة عيد الأضحى ستفرج سلطات الاحتلال عن 250 أسيرا براغماتياً من حركة فتح، والتعبير لإيهود أولمرت، مع العلم أن عدد الذين اعتقلوا في شهر أكتوبر الماضي وحده هو 280 شخصا، وأكثر منهم في شهر نوفمبر. هو عالم ظالم من دون شك، ولكن أليس من الظلم كذلك أن يجري تسخيف المقاومة التي أوصلت أسرانا إلى السجون وشهداءنا إلى العالم الآخر، من دون الكف عن إلقاء الخطب وإطلاق الوعود بتحرير جميع الأسرى، بالمفاوضات والضغوط الدبلوماسية، مع أن بيع القضية مقابل الإفراج عن الأسرى هو آخر ما يريده الأسرى أنفسهم، في وقت يعلمون أن الاحتفاظ بهذا العدد الكبير من الأسرى هو بدوره وسيلة ابتزاز للسلطة في سياق المفاوضات، حيث يمكن جعل الإفراج عنهم جزءا من الصفقة المقبلة.