إن الناظر في الفقه السياسي الإسلامي يجده مجالا خصبا للدراسة والبحث، ومن ذلك مسألة التنصيص والاجتهاد في الممارسة السياسية، وذلك أن الفقه السياسي في الإسلام لم تؤطره نصوص قطعية صريحة تحدد كيفية الممارسة السياسية، بل ليس هناك نصوص محددة لكيفية نظام الحكم، وفي الغالب الأعم يتم الرجوع إلى نماذج الخلفاء الراشدين، وكيف تم انتقال الحكم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الخليفة أبي بكر رضي الله عنه، كما يتم النظر إلى طريقة استخلاف عمر رضي الله عنه، وهكذا يظهر أن المجال في الممارسة السياسية مفتوح لاجتهادات العقل البشري حسب الظروف ومتغيرات العصر. والمتأملة في هذه المساحة الواسعة التي لم تحدد بحدود النصوص التي لا تترك مجالا لاجتهاد أو تحتمل الظن حتى، يجدها قد فوضت الأمر للعقل كي يفكر ويجتهد وينتج ما يلائم واقعه ومتغيراته بما يحقق المصالح ويدفع المفاسد، ومن ثمة، يمكن القول إن هذه المنطقة الفارغة من النصوص إنما هي مصلحة بذاتها، إذ كيف يمكننا أن نتصور لو كان هناك نظام حكم معين ينبغي التقيد به؟ بل كيف يمكن القبول بنصوص تفصل في جزئيات الممارسة السياسية، وتطالب بالخضوع لها والتقيد بقيودها، وهي لأناس عاشوا في زمان سابق لزماننا، ومن هنا يمكننا فهم المصلحة من وراء عدم التنصيص، وهي أن يترك الأمر من غير تفصيل حتي يفكر الناس يما يلاءم واقعهم، ويجتهدوا قدر وسعهم، فإذا أصابوا الحق ظهرت مصالح ذلك لا محالة، وإن أخطأوا فلا يمكن أن يحملوا الإسلام نتائج خطأهم، وإنما العيب كل العيب فيهم، وفيما أوصلهم إليه اجتهادهم، وهكذا يترك الأمر للتداول بين الاجتهادات المتنوعة، ولكن دائما الحق والصواب هو الذي يستمر، والخاطئ يزول، إن عاجلا أم آجلا. والمقصود بالفقه السياسي هنا كل المجالات التي نظمها الإسلام سواء أكان ذلك بنصوص ، أو وفق قواعد وضوابط عامة ويشمل ذلك علاقة العبد بربه عز وجل، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، فالإسلام وضع لكل ذلك الخطوط العريضة والتوجهات العامة، أما تفاصيل الجزئيات فقد تركها لاجتهادات الناس حسب ظروفهم وعصورهم. يمكننا القول من خلال هذه الخلاصة إن مجال الممارسة السياسية مجال الاجتهاد بامتياز، حيث يبرز التدافع بين الأفكار، وتقدم البرامج المختلفة، وتتنافس المشاريع، ويبقى المؤطر لكل ذلك قواعد عامة ترسم المسار الذي ينبغي أن يسلكه السياسي الذي يتخذ له الإسلام مرجعية، مع الاستفادة من تراث الفقه الإسلامي بكل مدارسه ومذاهبه، من دون أن يتعصب لمذهب دون آخر، بل يمكنه الاستفادة مما أنتجه العقل البشري ما لم يصادم توجهه السياسي، دون أن يهمل واقعه الذي يعيش فيه، مستحضرا النظام الذي يحكم بلاده، والأطراف المتدافعة فيه، كل ذلك يجعله يفكر في العلاجات المستمدة من صيدلية الشريعة. ومما ينبغي الوقوف عنده أيضا معرفة أن العمل السياسي هو مجال للمقاصد لا مجال للتعبد، مما يعني أنه مجال رحب للاجتهاد حتى يمكن تحصيل هذه المقاصد، وغير واحد من العلماء اعتبر أن العمل السياسي هو من الأمور العاديات وليس من العبادات، لذلك كان الأصل فيه الإباحة في كل الأعمال إلا إذا ورد نص صريح يقضي بالمنع، وذلك بناء على القاعدة الشاطبيةالأصل في العبادات والمقدرات التعبد، والأصل في العاديات الحكم واالمقاصد. وبما أن مجال العمل السياسي هو مجال لتدافع الأفكار واختلافها، هو أيضا مجال خصب لفقه الموازنات، حيث يتاح للعقل البشري ترجيح الراجح ودفع المرجوح، من خلال الترجيح بين المصالح والمفاسد، أو حتى عند تعارض مصلحة جزئية مع مصلحة عامة، أو من خلال ترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين. والحق أن الإسلام سن قواعد عامة بمثابة قوانين مضبوطة لو أحسن تطبيقها لتحقق النفع للبشرية، ولا أدل على ذلك اعتماد مجلة الأحكام العدلية في مادتها الثلاثين قاعدةدرء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة عند العلماء. حاصل القول، لا ينبغي اعتبار عدم وجود نصوص قطعية وصريحة تؤطر الممارسة السياسية ضعفا في الفقه الإسلامي، بل إذا تم النظر إلى ذلك من جانب ترك مساحة واسعة للعقل البشري حتى يجتهد مع متغيرات واقعه، وأيضا مراعاة للمصلحة التي يمكن تحققها عند اعتماد الاجتهاد السياسي القادر على موافقة الضوابط العامة لدين الإسلام، ومن ثمة، فإن عدم التنصيص على الجزئيات في ممارسة العمل السياسي ليس معناه تحرر وفجور، أو إطلاق العنان للعقل ليجتهد كيف شاء وبما شاء، فيقع الصدام بين الحكمة من عدم التنصيص ومصلحة الاجتهاد، والصواب هو الارتباط بضوابط الشرع التي جاءت فيها نصوص صريحة، وما يكون محله الاجتهاد يخضع لهذه الضوابط، فيتم بذلك الموافقة في كلتي الحالتين للشرع وما جاء به من أحكام قصدها الأساس تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم.