ما يجري في عكا منذ حوالي أسبوع هو في جانب منه معركة تطهير عرقي، لكنه من جانب آخر حرب ضد هوية يسعى العدو إلى إلغائها بشتى الوسائل، وهي حرب لم تتوقف فصولاً منذ عقود. صحيح أن للمسألة أبعاداً أخرى تتعلق بردود الفعل على العنصرية والتمييز الذي يمارس بحق المواطنين العرب في الكيان الصهيوني، لكنها عنصرية جاءت كرد فعل على تمسك الفلسطيني بهويته، ورفضه الذوبان في دولة الاحتلال بوجهها العنصري الفاقع. منذ عام 48 سعى الصهاينة إلى إلغاء الهوية الفلسطينية والعربية، ومعها الإسلامية للفلسطينيين الذين ظلوا داخل الدولة اليهودية بالخطأ، وبتعبير أدق، بحكم الظروف الموضوعية الضاغطة (ثبت ذلك بروايات تاريخية يهودية، إذ كان الأصل هو تنظيف تلك الأرض من سكانها)، وقد سجلت خلال العقود الثلاثة الأولى نجاحات باهرة، حيث ذاب قسم كبير من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 في المحيط اليهودي. لكن تصاعد نشاط الحركة الإسلامية، إلى جانب نشاطات بعض القوى الأخرى، مثل حركة أبناء البلد، كان له الأثر الأكبر في استعادة الفلسطينيين لهويتهم العربية والإسلامية، وشيئاً فشيئاً كانت الصحوة الإسلامية التي اجتاحت الشارع العربي والإسلامي منذ مطلع الثمانينات تجد صداها في الأراضي المحتلة عام 48، ثم ازدادت رسوخاً حين رفضت الحركة بقيادة الشيخ رائد صلاح بعد انشقاقه عن الشيخ عبدالله نمر درويش الانخراط في انتخابات الكنيست، لما لذلك من تأثير سلبي على برنامج الحفاظ على الهوية. وفي حين كانت المناطق العربية الصافية في الجليل والمثلث تستجيب لنداءات الصحوة الإسلامية، وتنخرط في النشاطات السياسية التي تناصر الأهل في الأراضي المحتلة عام 67، لا سيما إثر اندلاع الانتفاضة الأولى نهاية العام 87، فقد بقيت المناطق المختلطة، ومن ضمنها عكا بعيدة شيئاً ما عن الواقع الفلسطيني، إلا أن الموقف أخذ يتغير بالتدريج مع شيوع الصحوة ومد التدين بين أبنائها. الآن يقوم متطرفو الاحتلال، وبدعم من المؤسسات الرسمية بتنفيذ عملية تهجير قسري للعرب من تلك المناطق المختلطة عبر سياسة بث الرعب التقليدية، الأمر الذي واجهه الناس ببسالة، وسيواجهونه أكثر فأكثر كلما اشتدت الهجمة، وتأكد الموقف الرسمي المتواطئ معها. يحدث ذلك وسط حديث غير مسبوق بدأ يتردد منذ مؤتمر أنابوليس نهاية العام الماضي عن الدولة اليهودية، وعن إمكانية إجراء تبادل للأراضي والسكان في سياق التسوية المقبلة، الأمر الذي يدركه عرب 48، وبدأنا نسمع صداه في أحاديث بعضهم مثل الشيخ رائد صلاح الذي أشار إلى هذا البعد في سياق تعليقه على الأحداث الأخيرة. ومعلوم أن مواقف الشيخ وبدرجة أكبر نشاطاته العظيمة في سياق الدفاع عن المسجد الأقصى والمقدسات ما زالت تستفز مشاعر المتطرفين الذين يعتبرون الهيكل مسألة وجود لا يمكن التهاون فيها. ما ينبغي قوله هنا هو إن ردة فعل الجماهير العربية والإسلامية على ما جرى في عكا ينبغي أن تكون قوية، وقد صدرت بالفعل مواقف بالغة الأهمية من القوى الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي ينبغي أن ينسحب على سائر القوى الحية في الأمة. إنها رسالة ينبغي أن تكون واضحة للإسرائيليين مفادها أن الاستفراد بعرب 48 ليس ممكناً بحال، مع العلم أن خطاب السلطة الفلسطينية طوال السنوات الأربع الأخيرة كان إشكالياً بحق هذه الفئة، إذ كان عنوانه الرئيس هو تجريم إشراكهم في أي عمل نضالي مباشر يساند مقاومة أهلهم في الأراضي المحتلة عام 67 (قيادة السلطة ترفض المقاومة من حيث أتت)، وبالطبع بحجة عدم تعريضهم للتهجير، لكأنهم قطعان سائبة من الغنم يمكن طردهم دون ضجيج. إنه خطاب التعامل مع المحتل كما لو كان إلهاً يقول للشيء كن فيكون، وليس محتلاً يمكن كنس كل ما يبنيه من سياسات ومستوطنات ووقائع، وبالطبع بإرادة الإيمان والمقاومة، وليس بالتفاوض والاستجداء. والنتيجة أن عرب 48 سيثبتون وجودهم بإرادتهم وسواعدهم، وليس باستجداء عدوهم، ولا حتى ببيانات يلقيها نوابهم في الكنيست الإسرائيلي.