في هذا الحوار يحكي أحمد شهيد ظروف اعتقاله ومعاناته مع سجانيه في المعتقل السري وبعض ما حدث خلال ربع قرن من السجن، كما يحكي عن ظروف محاكمته والتهم التي نسبت إليه ومحاكمته بمحاضر لا علاقة له بها، وكيف تم استثناؤه من العفو الملكي. اعتقل شهر غشت من سنة 1983 بمدينة المحمدية وعمره 31 سنة ضمن مجموعة 71 وتم الحكم عليه بالإعدام يوم 30 يوليوز1984 بتهم وصفها شهيد بالثقيلة من ضمنها الانخراط في محاولة الإطاحة بنظام الحكم ليعيد الحكم عليه بالإعدام هو ورفيقه أحمد الشايب سنة 1987 إثر محاولة فرارهما من السجن. هذا الحكم تم تحويله للمؤبد سنة 1994 بمناسبة انعقاد مؤتمر الغات ليتحول هو الآخر إلى المحدد سنة 2006 بفضل حملة التضامن الداخلية والدولية التي واكبت إضرابهما عن الطعام عقب اختطافهما هو ورفيقه أحمد الشايب من سجن عكاشة بالدار البيضاء إلى سجن الزاكي بسلا. أحمد شهيد يتطلع اليوم إلى أن تتجاوز الدولة ما ارتكبته من جرائم بشعة عبر الاعتذار الرسمي عنها وإزاحة الجلادين من مراكز القرار. ما الذي حدث أثناء اختطافك واحتجازك في المعتقل السري درب مولاي الشريف؟ لقد عشت تجربة قاسية بالفعل، تجربة تعجز اللغة عن وصفها، ذلك أن رجال الأمن لم يقفوا عند حدود اعتقالي الذي لا جدال في طابعه التعسفي آنئذ، بل تم نقلي إلى المعتقل السري المرعب درب مولاي الشريف؛ بعد احتجازي لمدة يومين بمدينة المحمدية حيث ألقي القبض علي، وقضيت بدرب مولاي الشريف ستة أشهر وأنا معصوب العينين ومقيد اليدين. وبمجرد وصولي إلى هذا المعتقل تم تجريدي من كل ملابسي التي تم تعويضها بقميص وسروال كاكي اللون، مع طلب الامتناع التام عن الكلام، والبقاء ممددا بدون حراك إلا بإذن من الحارس الذي يطلق عليه لقب الحاج ، حيث اعتقدت للوهلة الأولى بأن الأمر يتعلق بأناس أدوا فريضة الحج . ولما علمت بسر هذا الاسم تساءلت فيما بعد عن دلالة إطلاق هذا الاسم على هؤلاء القساة من الجلادين. وقد قضيت ليلتي الأولى بالطريقة التي طلب مني الالتزام بها، أعيد ترتيب أفكاري للتكيف مع هذا الوضع الجديد علي بما يساعدني على تحمله ومجابهته لأقهر ما كنا نواجه به من قهر وقسوة. وبينما أنا في حالة شرود إذا بأحد الجلادين الحاج ينادي على الرقم 16 الذي لم يكن إلا اسمي الجديد داخل هذا العالم الذي تلغى فيه كل مظاهر إنسانيتك. وقد تعرضت داخل هذا المعتقل السري لاستنطاقات مطولة مصحوبة بحفلات من التعذيب المتعدد الأصناف. وقد تركزت التحقيقات على حركة الشبيبة الإسلامية وفصيلة الجهاد، لتبدأ مرحلة المحاكمة بالاستيناف بناء على محاضر مزورة وقعنا عليها تحت قساوة التعذيب، ودون معرفة محتوياتها إلا لحظة قراءتها علينا في المحكمة التي استندت بشكل كامل على ملفات الشرطة القضائية؛ دون الرجوع إلى ما صرحنا به داخل المحكمة، ولا حتى بالاستناد إلى ما ورد في ملف قاضي التحقيق. وقد كانت التهم ثقيلة؛ ومن ضمنها الانخراط في محاولة الإطاحة بنظام الحكم واستبداله بنظام حكم شبيه بذلك الذي عرفته إيران بعد الثورة الإسلامية. وتم النطق بالحكم يوم30 يوليوز 1984 حيث وصفت الصحافة محاكمتنا آنذاك بالمجزرة، فقد تراوحت الأحكام بين الإعدام وعشر سنوات مرورا بالمؤبد؛ لننقل بعدها إلى سجن غبيلة بالدار البيضاء، وقبيل طلوع فجر اليوم الموالي تم نقلنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة، حيث وجدنا ظروفا مأسوية في انتظارنا هناك، كان علينا مواجهتها بخوض إضرابات عن الطعام أدينا ثمنها غاليا. هل صحيح أن المنشور الذي كان بحوزتك تم دسه من لدن المخابرات المغربية؟ لم يكن لدي أثناء اعتقالي أي منشور يذكر، بل كنت قد أنهيت مهمتي في توزيع المنشورات، وبدأت بإلصاق مجموعة من الملصقات في بعض الشوارع المعروفة بمدينة المحمدية حيث اعتقلت مع أحد رفقائي هناك، وقد توبعنا في المحاكمة بتهم كبرى لم تكن كلها صحيحة ولم يكن من أدلة للإثبات إلا بضع منشورات من ضمن تلك التي كنا قد وزعناها كما قلت، وهو ما أحرج السلطات وأفقدها مصداقيتها أمام الرأي العام وجهت لك تهمة قلب النظام ومحاولة قلبه واستبداله، والانتماء طبعا إلى ما عرف بفصيلة الجهاد؛ هل من توضيح بهذا الخصوص ؟ هذا صحيح ، لكن ما لم يكن صحيحا هو تلك التهم الكبرى التي ووجهنا بها من قبيل قلب النظام واستبداله بنظام شبيه بالذي تعرفه إيران التي اتهمت بتقديم الدعم لنا وهي تهمة غريبة أصلا ،لأنه لم يكن لديها أية علاقة مع أي طرف خارجي ، كل ما في الأمر أننا استفدنا من الأجواء الحماسية التي كانت تعرفها الساحة الوطنية والمنطقة العربية بشكل عام، حيث كانت أوضاع المغرب في مطلع الثمانيناث مزرية ومأزومة سياسيا واجتماعيا، عانت فيها المعارضة الحزبية والنقابية معانات شديدة ( تزوير الانتخابات سنة 83 و 84 ، اعتقال قيادة الاتحاد الاشتراكي والكونفدرالية ... )، في حين كان المشرق العربي يعرف غزوا إسرائيليا للبنان، وقمعا شرسا للفلسطينيين، لذا تضمنت المنشورات التي وزعناها إدانة واضحة للنظام الحاكم بالمغرب ولسياساته اتجاه القضية الفلسطينية، وتطبيعه مع الصهاينة، ناهيك عن تخليد ذكرى انتفاضة 1981 الشهيرة. أما فيما يتعلق بفصيلة الجهاد فكانت إحدى التنظيمات التي تفرعت على الشبيبة الإسلامية بعد ما رافق مسار هذه الأخيرة من لبس وصراعات عقب خروج قياداتها إلى المنفى وتعدد مصادر القرار فيها، والوقوع في بعض الأخطاء من قبيل التورط في عملية اغتيال الشهيد عمر بن جلون؛ عوض التركيز على مواجهة الخصم الاستراتيجي للحركة الإسلامية آنئذ؛ والمتمثل في الاستبداد والفساد. تم الحكم عليك ضمن مجموعة 71 بالإعدام سنة ,1984 وتم تحويله فيما بعد إلى المحدد، وبين 1994 و2004 تم العفو على عدد من المعتقلين في ثلاث دفعات، إلى ماذا ترد استثناءك أنت وزميلك أحمد الشايب من الإفراج؟ لم نعان أنا والشايب وحدنا من الاستثناء من عمليات الإفراج عن المعتقلين السياسيين التي عرفتها بلادنا، بل إن حوالي 70 معتقلا سياسيا قد تم استثناؤهم أثناء ما عرف بالعفو الشامل، لسنة ,1994 ومن ضمنهم جميع من كان محكوما بالإعدام من مجموعة ,71 وعددهم ستة مناضلين، قبل أن يفرج عن أربعة منهم بعد أربع سنوات ليتم استثنائي أنا وزميلي الشايب سنة ,1998 إضافة إلى حوالي أربعين معتقلا سياسيا آخرين أفرج عن 25 منهم سنة2004 بمناسبة الإعلان عن هيأة الإنصاف والمصالحة؛ ليحتفظ بحوالي خمسة عشرة معتقلا سياسيا في سجون النظام منذ ذلك الحين . أما بالنسبة لتخفيف حكم الإعدام فقط ارتبط أساسا بانعقاد مؤتمر قمة الغات بمراكش، حيث تم تخفيض جميع أحكام الإعدام، سواء كانت للمعتقلين السياسيين أو لمعتقلي الحق العام ( تم تخفيض 132 حكما بالإعدام إلى المؤبد) . وعموما فإن لدى الدولة إستراتجية ثابتة توظف من خلالها ظاهرة الاعتقال السياسي بما يخدم مصالحها ، وتقوم على الاحتفاظ بمجموعة من المعتقلين السياسيين وتوظيفهم في كل مرحلة تعاني فيها من زيادة الضغط عليها؛ ليتم الإفراج عنهم بعدها دون الاعتراف بكونهم معتقلي رأي إلا بعد الإفراج عنهم ، ليكون المعتقل السياسي ورقة رابحة للنظام في لحظات الاعتقال أو الإفراج على السواء. محاولة فرارك من السجن سنة 1987 أدت لتعقيد ملفك، هلا أعطيت بعض الإضاءات حول ملابسات هاته الحادثة ؟ إن ملابسات هاته القضية غير منفصلة عن قضيتي الأولى التي حوكمت فيها بالإعدام ، ولم تكن عائقا أمام النظام للإفراج عني، علما أنني في القضيتين لم أستخدم العنف ولم أدع إليه ، وأن استثنائي من الإفراج مرتبط بما شرحته من قبل. أما محاولة الفرار فلم تكن إلا نتيجة حتمية لرغبة جارفة في الإفلات من شروط المحاكمة القاسية التي لا تتوفر فيها أبسط شروط المحاكمة العادلة، كما تقررها المادة 14 من العقد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تؤكد على حق الفرد في أن يلجأ إلى بلاد أخرى هربا من الاضطهاد، وهل من اضطهاد أكبر من ذاك الذي عايناه لمجرد أننا وزعنا منشورات تنتقد النظام الحاكم لنواجه حكم الإعدام في محاكمتين استثنائيتين واجهنا قبلها وأثناءها وبعدها أهوالا من العذاب الذي تفوق بشاعته كل تصور. وما يؤكد صحة ما أقول هو احتفاظ الدولة المغربية بمجموعة من المعتقلين السياسيين في سجونها منذ زمن طويل مثل مجموعة محاكمة فاس 1994 التي تضم عبد الرحمن بوجدلي وعبد السلام كرواز وكمال بن عكشة ، ومجموعة محاكمة الرباط 1995 التي تضم محمد بورويس وخالد العيداوي و الشجعي الواسيني وعبد القادر العمراني إضافة لمن تبقى من مجموعة محاكمة مراكش 1985 التي تضم المناضل عبد الوهاب النابت وميمون النابت وهي مناسبة أجدد الدعوة من خلالها للإ فراج عنهم والقطع مع هذه الظاهرة السيئة . هل ترى في خروجك و زميلك الشايب من السجن مؤشر يدل على عزم الدولة على الطي النهائي لملف الاعتقال السياسي في المغرب ؟ لا أعتقد ذلك؛ لأن الإفراج عنا لم يكن بإرادتها، بل نتيجة حملة ضغط مكثفة قامت بها الهيئات الحقوقية وطنيا وعلى الصعيد الدولي حتى تم تخفيف الحكم عنا، ناهيك عن استمرار ظاهرة الاعتقال السياسي ببلادنا ، إضافة إلى ما نراه يوميا من تراجعات على صعيد الحريات العامة والخاصة وحرية الصحافة واستمرار مظاهر التعذيب والاختطاف، وعدم اتجاه النظام نحو إقرار ديمقراطية حقيقية تتجاوز منطق الاستئثار بالسلطة الذي يميز سلوك الحاكمين. ألا تفكر في مقاضاة الدولة المغربية ؟ إن أي خطوة من هذا القبيل ينبغي أن تتم في إطار قرار جماعي يقوم به مثلا منتدى الحقيقة والإنصاف باعتباره إطارا لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا ، غير أنني أتطلع إلى جانب كل الضحايا إلى تجاوز الدولة لما ارتكبته من جرائم بشعة عبر الاعتذار الرسمي عنها ، وإزاحة الجلادين من مراكز القرار، وإقرار إصلاحات دستورية نوعية تؤسس لنظام ديمقراطي حقيقي، وهي أمور إن تمت ستكون بمثابة عملية جبر ضرر جماعي لمجمل الشعب المغربي على ما عاشه من مآسي في سنوات الجمر والرصاص ، لكنها مطالب تحتاج حتما لجهود مضاعفة من النضال حتى تتحقق في مستقبل الأيام.