كيف يتأتى لنا نحن المسلمين أن نجدد من فهمنا لقضايا العقيدة ونؤسس لها بناء استدلاليا معاصرا؟ وكيف يمكن للبحث الفلسفي الميتافيزيقي أن يعاد تأسيسه اليوم؟ عندما نطرح سؤال التأسيس مقترنا بهذا المؤشر الزمني (اليوم) الدال على الراهنية واللحظة، فلسنا نقصد مناقشة وضعية سؤال الدين ما بعد النقد الكانطي فقط، بل أيضا ما بعد النقد الإبستمولوجي لنظريات الصورنة ومنهجية الاستقراء وما يرتبط بها من مفاهيم العلة والسببية والحتمية، ذلك النقد الجذري الذي تطور في القرن العشرين بدءا من تحولات علمي الرياضيات والمنطق مع نظرية المجموعات، ومبرهنتي ححجودلحح، و تحولات المعرفة الفيزيائية مع نظرية الكوانطا وما لحقها. إن التفكير في الماوراء وطرح سؤال الدين في لحظتنا هذه يحتاج إلى معاودة نظر جذرية وعامة تتناول بالتدقيق والتمحيص الأسس الابستمولوجية للتفكير في سؤال الدين، وأعني بذلك أن الاحتياج إلى معاودة النظر لا يخصّ فقط الكتابات الدينية التي لا تزال تركن إلى تراثها الكلامي وطرائقه المكرورة في الاستدلال، بل يحتاج إلى معاودة النظر أيضا في ذلك الركام من الكتابات الإلحادية المتقافزة باسم العلم، مع أنها في نفيها للألوهية تقف على خواء، وتعبر عن فكر مبتذل. الكلام السني والشيعي إن معاودة النظر بحسّ نقدي يجب أن تشمل النقاش العقدي في مختلف مستوياته سواء منه المدافع عن الدين أو الناقد له: فلو نظرنا إلى الأبحاث الإسلامية مثلا سنلاحظ أنها في قسمها السني يغلب عليها طابع التقليد لِمَا استقرّ منذ ما يقرب من ألف عام في الأبحاث الكلامية الأشعرية، حيث مازال الاستدلال الكلامي على (الألوهة والنبوة) يتمّ على أسس منهجية بعضها خاطئ، أو على الأقل متجاوز إن نحن أردنا تهذيب العبارة. والفكر الإسلامي في قسمه الشيعي تراه يستدل على أسسه العقدية (الألوهة والنبوة والإمامة) على النحو ذاته، فيكرر ما استقر سابقا في أصوله الكلامية وكأن دفق الحياة والتجدد في الوعي والثقافة قد توقف، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان! وإذا نظرت في علم الكلام التقليدي في قسمه السني، الذي يسيطر عليه الفكر الأشعري، ستجده في أساسه المنهجي لا يزال يرتكز على قواعد المنطق الأرسطي، التي نقلها ووسّع منها شرّاحه وخصوصاً الإسكندر الأفروديسي الذي كان شرحه على كتاب ححقاطيغورياسحح من أوائل ما نقل إلى العربية كما يذكر القفطي، ذلك المنطق الذي خُلط بشروح المشائين، ومنطق الرواق، ثم استقر في شكل منظومات محفوظة، أصبح الشرّاح يلتفون حولها بالحواشي من دون أدنى حس نقدي، مثل المنظومة الشمسية، ومتن السلم. وكذلك الحال في الأساس المنهجي للاستدلال الكلامي الشيعي فهو أيضا مشدود إلى المنطق ذاته، فإذا كان للسنة منظومتهم الشمسية فللشيعة ححمنطق المظفرحح، الذي على رغم كونه كتب في القرن العشرين فإنه من مبتدئه إلى منتهاه مجرد تكرار لما كان معتمدا في الحوزات وأسلاك التدريس الشيعية من قديم. وإذا كانت الرؤية العقدية السنية اليوم تكرر المتن الكلامي السني كما تبلور في القديم مع الجويني وعضد الدين الإيجي.. فإن الرؤية العقدية الشيعية تكرر متنها الكلامي القديم كما تبلور عند الشيخ المفيد وتلميذه المرتضى. إنها حقا غيبوبة الفكر في أكمل تجلياتها! ولا مجال لتجاوز الوضع من دون تجديد في منهج التفكير والاستدلال العقدي. نقد الفكر الديني وفي الطرف المقابل يطالعك الفكر الإلحادي بنعيق التعالم فينفي وجود الإله زاعما، في نفيه هذا، الارتكاز على منطق العلم! ويكفي هنا أن نشير على سبيل المثال إلى أشهر الكتب العربية الناقدة للاعتقاد الديني، اقصد كتاب صادق جلال العظم المعنون بـ ححنقد الفكر الدينيحح، المليء بسقطات معرفية يزيدها كاتبها شناعة عندما يغلفها بلبوس العلم، زاعما أنها متأسسة على آخر مستجداته، وكمثال على هذه السقطات الفاضحة نشير إلى ما ينتهي إليه العظم في فصله ححمدخل إلى التصور العلمي- المادي للكون وتطورهحح، حيث يقول حح:ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صورة كونية متكاملة تناسب العصر وعلومهحح. ص .145 ربما ثمة مسوغ للكاتب أن يخط هذه السطور في سنة 1969 حيث كان للإيديولوجية الماركسية نفوذ فكري مهيمن على بعض الأوساط، لكن لا يشفع له هذا جهله الفاضح بدلالة التحولات العلمية المعاصرة التي كانت في لحظته تلك قد شاعت وكثر القول فيها في المجلات العلمية المتخصصة وغير المتخصصة، ولا يشفع له أكثر أن يعيد طبع الكتاب سنة 2003 دونما إضافة ملاحظات يعدل فيها أخطاءه في فهم قضايا أصبحت من أبجديات العلم راهنا، فتراه يكرر أن الديالكتيك الماركسي يقدم رؤية كونية متكاملة تناسب العصر وعلومه! كل هذا وغيره يؤكد وجوب إنجاز وقفة نقدية معرفية/إبستملوجية لمبحث الدين تستهدف مراجعة مسائله والنظر في طرائق بنائها ووسائل استدلالها .