انطفأت شموع كثيرة، احترقت من كمدها دون أن يشعر بها أحد. رحلت ولم يعد هناك من يتذكرها ولا من يتذكر فضل النور الذي كانت تضيء به المكان، فلم يبق غير الظلام يخيم على المكان، ولم تبق غير الخفافيش تتسابق على امتصاص دماء البشر. مات القبطان وغرقت السفينة؛ وضاعت الحقائق بين انعدام الضمير وبين سوء السريرة. لقد كانت الشمعة التي تنير الدروب، والقبطان الذي يقود السفينة بين تلاطم الأمواج، إنه القائد الذي ينجي نفسه وينجي كل من حوله، هو الضمير الحاضر الغائب في مجتمع التناحرات. مجتمع مات فيه كل جميل وكشر عن أنيابه المفترسة، ليعلن للكل عن حقيقة نواياه، ويعلن أنه دفن ضميره وأطفأ شمعة المشاعر الانسانية، وبدأ يمشي في الطريق دون مقود ودون ما يتطلبه قانون السير من احترام القواعد ووجود الآخرين، ظن أنه وحده الذي يملك صفة الانسانية، وكل الآخرين لا قيمة لهم عنده، بل اعتبر أن كل الذين يحيطون به مجرد دمى يحركها كما يحلو له، في الوقت الذي يحلو له. لقد كان لغياب الضمير مأساة حقيقية يشهد لها تاريخ الانسانية جمعاء، فما الكوارث والأحداث البئيسة والمؤلمة التي نسمع أخبارها يوما بعد يوم إلا نتيجة واضحة لذلك الضمير الغائب. أصبح الكل يتعامل بخبث وبأنانية، الكل أصبح يجري ويلهث وراء القطع الفضية، ولو كلفه الثمن أرواحا بشرية، ناسيا أو ربما متناسيا أنه مهما جمع من قطع، ومهما بلغ حجم ثرائه فإن ذلك كله لا يعوض قطرة دم إنسان واحد، ولا يساوي بسمة على شفاه محروم، ولا يعادل، بشيء، لمسة حنان لشخص مكروب، ولا نظرة إشفاق واهتمام إلى حرقة دموع مكلوم. المشكلة في مجتمعنا اليوم لم تعد في شخص فقد قيادة الضمير واستسلم لقيادة القطع الفضية، لكن أيضا المشكلة في الذين يجملون لهم الطريق وينورونها لهم، وإنهم بتلك الطريقة يعلمون أن في تلك الطريق يدوسون كرامتهم أولا، وكرامة شعب بأكمله، سلمهم ثقته وأمنهم على حياته. المشكلة أيضا أن خبثهم جعلهم يمكرون كل شيء، فما إن تقع إحدى المآسي، ويصحا أحد الضمائر من السبات، حتى تظهر حقيقة الصدأ الذي يغطي قلوبهم، لكن دون أن يتحلى أحد منهم بروح البطولة والشجاعة، ويعلن للجميع أنه هو المسؤول عن المأساة، بل بالعكس، يتخفون وراء الجلابيب، ويحنون رؤوسهم تحت القبعات، ويبحثون عن أضعف العناصر فيهم، لينتقموا منهم على موت ضمائرهم، ويستمروا في الظلام الذي يسهل عليهم الانقضاض على فرائسهم، بعدما انطفأت شموع الضمائر.