الله يسهل، ما فايتينك غير بالصبر..... أحيانا لا يجني با أحمد من وراء اتكائه على ذلك الحائط، في الطريق المؤدية إلى محطة الحافلات منذ الساعات الأولى من كل صباح، سوى هذه الجمل المقتضبة التي يلقيها المارة، الذين يركضون في اتجاه الحافلات وهم يتفقدون تسرب الثواني على ساعاتهم أو على شاشات هواتفهم المحمولة.. ورغم ذلك فهو لا يكل، لأن الأفواه التي تنتظره في المساء في قريته التي هاجمتها المدينة من كل جانب باولاد مطاع، لن تملأها الكلمات سواء كانت رطبة أو قاسية.. با أحمد هو أحد ضحايا زحف الإسمنت، فبعد أن أمضى سنين طويلة يحرث أرض غيره، ويحصل من وراء ذلك على نصيبه الذي يكفيه مؤونة السؤال، زحف الإسمنت حول قريته التي يتهددها الزوال، ولم تعد هناك أرض يحرثها، وزحف العجز إلى أطرافه الواهنة، مع زحف الشيب إلى رأسه، ولم يبق له إلا أن يستقل سيارة أجرة كبيرة كل صباح، ويتخذ له مكانا وسط أحد الأحياء الشعبية ويستجدي المارة بنفس مقهورة وقلب منكسر، ليعود في المساء بقفته الصغيرة وبما جاد به الأجواد إلى كوخه البئيس في مدخل مدينة تمارة بأولاد مطاع، في انتظار أن تزحف الجرافات إلى قريته وتحول أشجارها وصبارها إلى رماد ينبت عمارات شاهقة، وعندما يحل ذلك اليوم لا يعرف با أحمد إن كانت قدماه ستصمدان للتنقل كل يوم من أجل البحث عما يملأ الأفواه الجائعة هنا، أم أنه قد يكتفي بمد يده أمام باب عمارة قد تبت فوق الحقل الذي قلب تربته عقودا طويلة. با أحمد كلما أخذ مكانه المعتاد وتأمل حاضره في وسط زحام المدينة وبين أعين لا ترحم، تنهد بقوة متحسرا على الأيام والأقدار التي خانته ورمته في وسط أحياء الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود، هو شيخ كان في يوم من الأيام سيد قبيلته رغم أنه لم يكن يملك فيها أرضا باسمه، فقد اشتغل في أرض اعتبرها له، يحرث ويزرع ويعيل بها أفراد أسرته، كانت تجمعه بصاحب الأرض علاقة طيبة خلقها هو بقوة شخصيته وجديته ومثابرته، فكانت كلمته في القبيلة تعلو ولا يعلى عليها، إذا صرخ ترتعد فرائس مخاطبيه، وإذا صمت يحسب لسكوته ألف حساب، ولكن خانته بديهته حينما تصور أن الأيام ستبقى على حالها، فبعد أن تمكن الوهن منه وخارت قواه، سقط الأسد العجوز ليقتص منه من كانت له في نفسه رهبة منه في أيام شبابه وتباغث المنية مالك الأرض لتتوحد عليها أنياب الورثة ويطرد منها با احمد شر طردة ليجد نفسه في الشارع. لم يبق ل با أحمد سوى ذكريات ما زالت تجد لها مستقرا في ذهنه، يتذكر با أحمد كيف أن الأصحاب والأحباب تنكروا له في أقصى لحظات بؤسه، ويتذكر وقد غرقت عيناه في دموعها اليوم الذي اشتد المرض فيه على ابنه وارتفعت درجة حرارته لتنذر بالخطر المحدق إذا لم ينقذ في الوقت المناسب، ويتذكر كيف أنه قصد بيت قريب له ليجد الجواب صد وإغلاق للباب في وجهه، ومرت تلك الأيام على العجوز ثقيلة كئيبة بين التضرع إلى الله ومناجاته وبين ردهات المستشفيات التي لا ترحم، فكلما كان يلتقي بالطبيب المعالج أو أحد المسؤولين يسأله أين الدواء ألا تنوي أداء الفاتورة؟ هل تظن أن هذا المشفى خيرية؟ ويتلكأ الأب ويستنجد عطف الأطباء والممرضين وحتى زوار المستشفى لعل قلبا يرق ويعطف، لكن المرض كان أقوى من توسلاته فقد كان الابن مصابا بمرض التهاب السحايا (المينانجيت)، لينتهي به الأمر إلى الخبر الذي نزل على الأب المسكين مثل الصاعقة وفاة الابن بسبب مرض لم يجد له دواء مع فراغ جيب با أحمد، وتبدأ المأساة فقر يحصد الأرواح لم يجد با أحمد أمامه سوى اللجوء إلى الشوارع وافتراش الأراضي والتسول طمعا في قلوب رحيمة تعطف لحاله وتنقذ ما تبقى من أبنائه من بطش وغدر الزمن، فهو المعيل والمتكفل لأسرة شاءت الأقدار أن تتخضرم بين حياة العز وحياة البؤس ولسان حالها يردد دوام الحال من المحال. مثل با أحمد كثيرون في مجتمعنا حتى أصبحت مظاهر البؤس عندنا هي الأصل والرغد والرفاهية الاستثناء. وعلى الرغم من أن با أحمد رجل أمي والظروف التي مر بها لم تترك له مجال لفسحة أمل في حياته، فإنه زرع الأمل في حياة أبنائه، فهو يتمنى أن يكون في أبنائه الأطباء والمهندسون والأساتذة ويحمل على كاهله من أجل تحقيق ذلك الصبر على ما قدره الله ولا يهمه إن ضاعت كرامته بين هذه الدراهم المعدودة التي يتصدق بها المحسنون، ولكن ما يهمه هو أن تحفظ كرامة أبنائه وأن لا تكرر الحياة فعلتها معهم. با أحمد السبعيني والأب لأربعة أبناء أكبرهم لا يتجاوز عمره 14 سنة يدرس بالمستوى السادس ابتدائي، كان قدره البؤس، ولكن رغم ذلك ظل يحمل بين ضلوعه إيمانا قويا ويقينا صادقا بأن بعد العسر يسرا، كان الشيخ وهو يتحدث بصوته المرتعد وعيناه الذابلتان بين الفينة والأخرى يردد كلمات مفادها أن الله وحده مطلع على الأفئدة وأنه لا يحترف التسول على شاكلة مجموعة من الناس، ولكن سوء حظه رماه إلى أحضان عذاب متكرر وحياة رتيبة مدادها حزن وألم. فبعد يوم تسول يعود حاملا قفته الصغيرة إلى كوخه البئيس ومعها كومة من الذكريات التي شهدتها عيناه واستوعبها عقله بسعيدها وتعيسها في يومه، ليضع رأسه فوق المخدة على أمل أن يكون غده أحسن من يومه.