اختار الدكتور عبد الله فهد النفيسي في هذه الدراسة أن يعيد التذكير بعدد من المقدمات الأساسية في العمل السياسي للإسلاميين، بغية إعادة بناء الرؤية التاريخية للعمل الإسلامي تقوم على محورين، الأول خارجي ويهم سياسات الغرب تجاه الأمة والثاني داخلي ويخص قدرات الأمة في التفاعل مع هذه السياسات ولماذا هي قادرة على بلورة إجابات تاريخية فعالة، وقد عنون الكاتب المحور الأول بالوعي التاريخي أما الثاني فوضعه تحت عنوان تشخيص حال الأمة، حيث يقدم عرضا مركزا بأهم محطات العلاقة بين الغرب والأمة الإسلامية، بما يمكن من وضع الفعل السياسي المحلي في سياقه الحضاري الشامل والكلي، متبنيا في ذلك قراءة خاصة لموضوع نشأة الكيان الصهيوني وارتباط هذه النشأة بهدف حماية المصالح الغربية أكثر منها خدمة يهود العالم، وعلى مستوى حال الأمة يقف على ثالوث الطغيان السياسي وسوء توزيع الثروة والتحلل الاجتماعي كعناصر ثلاث تفسر وضعيتها الحالية، والمتخلفة بالمقارنة مع عدد أمم الأرض، والبديل الذي يقدمه الكاتب هو عودة العلماء والفقهاء والشرفاء للعمل السياسي لكن بمنطق الفاعل السياسي وليس بمنطق الخطيب، ويقترح لذلك خمس أصول تقوم على القراءة العلمية للمشهد السياسي وعد تبديد القوى في مواجهات غير محسوبة، والانطلاق من تشخيص فعلي لحاجيات ومشكلات الناخبين، وتنمية النقد الذاتي والمرونة وصولا إلى التوسع في العلاقات الشعبية للعمل الإسلامي السياسي، وعد الاقتصار على جمهور المساجد خاصة. وضوح الرؤية من أهم الشرائط الموضوعية والفنية في العملية السياسية هو (وضوح الرؤية) ذلك لأن ولوج هذه العملية دون استكمال هذه الشروط سيعرضنا لاختلال كبير في ميزان منظوراتنا الإستراتيجية. إن دخول العملية السياسية دون التسلح بهذا (الوضوح) من شأنه أن يستدرج الإسلاميون ـ في أي مكان ـ لفضاءات ومساحات وأنشطة ستساهم في نهاية المطاف بعجن وإدماج ( الطاقة الإسلامية) في ماكينة كبيرة تتحرك باتجاه تحقيق مرامات بعيدة تماما عما ينشد الإسلاميين في مجهود سياسي ـ المفترض ـ ألا يكون مجهودهم وفي معركة سياسية ـ المفترض أيضا ـ ألا تكون معركتهم ، ولأجل بلورة (الرؤية) يجب التركيز على نقطتين أساسيين: الأول (الوعي التاريخي ) والثانية ( تشخيص حال الأمة). في الأولى نستكمل وعينا بالمراحل التاريخية التي مرت بها أمتنا ما بين نواكشوط وجاكرتا وكيف أن التراكم التاريخي لهذه المراحل أدى إلى ما نحن فيه من ضعف وتبعية وإلحاقية حضارية. وفي الثانية نحيط ـ على الأقل نظريا ـ بحال الأمة : أزمتها الهيكلية في السياسة والثروة والاجتماع. المحطات الخمس في علاقة الغرب بالأمة لو تأملنا في تاريخنا المعاصر سنلاحظ أن علاقتنا بالغرب (الأوروبي ولاحقا الأمريكي) كانت ولا تزال هي المكون الفاعل في المستجدات والتطورات المفصلية. ولو تأملنا في تفاصيل علاقتنا بالغرب واستحضرنا (المحطات الرئيسية) في السياق التاريخي لهذته العلاقة سنلاحظ بأن ثمن (خمسة محطات) في كل محطة من هذه المحطات قام العرب بمهمته إلى نهاياتها وتمكن من تحقيق استهدافاتها كلها ثم انقل إلى المحطة التي تليها ونعرض الآن إلى هذه المحطات الخمس: 1 ـ محطة العنـف: لقد قام الغرب بتسيير ونجييش عدة حملات عسكرية لإحكام سيطرته على مقدراتنا ومقوماتنا الاستراتيجية: الأرض والمياه والمعادن والمحاصيل. وقد شارك في هذه الحملات الإنجليز والفرنسيون والبرتغاليون والهولنديون ولاحقا الأمريكان. في هذه الحملات العسكرية كانت آلة عنفهم لا تفرق بين المغربي والمشرقي أو بين العربي والفارسي أو بين الكردي والتركماني. كان العنف المادي هو وسيلتهم ـ في هذه المحطة بالذات ـ لإخضاعنا (ونهائيا) لسيطرتهم. لقد كسروا عظامنا وقطعونا إبا إربا كالذبيحة وأخذوا يوزعون أشلاءنا بينهم عبر مؤتمراتهم (فرساي وسايكس بيكو وهلم جرا). لم يكن في هذه المحطة (حوار) بيننا وبينهم ولم يراعوا حقا واحدا من حقوقنا لا المادية ولا الأدبية. كانوا ينظرون إلينا كأحزمة نفط وأحزمة مطاط وأحزمة أخشاب وأحزمة توابل وأحزمة نحاس وقصدير إلى آخر قائمة الخامات وكانت وسيلتهم في السيطرة على هذه الأحزمة هي بكل بساطة : العنف والبلطجة. واستمرت هذه المحطة لمئات السنين (زمنيا) وانسحبت على مساحة تمتد ما بين نواكشوط في موريتانيا وجاكرتا في أندونيسيا. 2 ـ محطة التجزئة: وبعد أن تمكنوا منا ـ بالعنف المادي والعسكري ـ سنلاحظ أنهم حرصوا على تكريس (التجزئة) التي تمخضت في سياق المحطة الأولى. حرصوا في هذه المحطة على تشكيل (الدولة القطرية) بين كل ذلك تهشيما وأعطوا الدولة القطرية (شرعيتها الدولية) وحموها من كل ما يمكن أن يهددها ولو كان الذي (يهددها) مشروعا وحدويا رديئا كالذي كان بين مصر وسوريا (1958 -1961). إن تجزيء أمتنا لسيادات متعددة وبيارق مختلفة الألوان والأشكال وتكريس الشتات الثقافي والسيكولوجي من خلال الأناشيد (الوطنية !!) الموغلة في المحلية وتوظيف الشعر والسينما والرواية والمسرحية في هذا السياق، تولد عنه هذه الفسيفسائية الحالية الشائعة المكرورة ما بين المحيط الأطلسي والأرخبيل الأندونيسي. إن الدولة القطرية لم تكن نتيجة لتوازنات استراتيجية عفوية لأمتنا بقدر ما كانت نتيجة طبيعية لمجهود عسكري غربي تصاعد على أراضينا خلال الأربعمائة سنة الفارطة. 3 ـ محطة الإلحاق الاقتصادي: وبعد أن تمكنوا من تكريس التجزئة ورعوا قيام (الدولة الشظية) هنا وهناك وإمعان في التجزئة انتقلوا إلى مقوماتنا الاقتصادية (نفوط ومعادن ومحاصيل زراعية)، وألحقوها باقتصادياتهم إلحاقا كاملا وقاوموا بكل الوسائل ولازالوا يقاومون عملية تحرير مواردنا الاقتصادية من سيطرتهم وإذا نجح أيا كان في هذه العملية وضعوا أمامه شتى أنواع المعيقات ليثبتوا له أنه لا فكاك من التبعية لهم. ولقد ثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك بأن مساعيهم في اتفاقية (الجات) وطرحهم المتكرر لمفهوم (العولمة) و(الخصخصة) إنما هي وسائل جديدة لإحكام سيطرتهم على موارد العالم أجمع ومن خلال (وحدانية السوق) يمكن أن يتحقق مشروعهم التاريخي وهو السيطرة التامة على مقدرات أمم كل العالم وإخضاعهم لمتطلبات نموهم هم وازدهارهم هم، وكلما ازدادوا غنى وثراء إزداد العالم ـ بما فيه أمتنا ـ فقرا وعوزا. لقد تمكنوا من خلال سيطرتهم على صناعة السلاح وكذلك سيطرتهم على منظمات الشرعية الدولية (عصبة الأمم وبعدها الأممالمتحدة) من توظيف ذلك في إحكام السيطرة علينا من خلال عقيدة استراتيجية عالمية خلاصتها تقوم على تغدية النزاعات الخفيفة المحدودة والمحكومة استراتيجيا من طرفهم. 4 ـ محطة التغريب ومحاربة الإسلام: ولأنهم أدركوا خلال المحطة الأولى أن الإسلام ضد المشروع الامبريالي الكولونيالي عمدوا لمحاربته واقتلاعه من ذاكرتنا التاريخية. وكان أقصر طريق نحو ذلك هو محاربة (اللغة العربية الفصحى) الحبل المتين الذي يربطنا بالنبع الصافي (القرآن الكريم). لم تكن محاربتهم لهذا الكتاب العظيم من حيث تعاليمه المباشرة فهذا ما لا يستطيعونه بالطبع، لكن من حيث هو مرشد نظري لحركة اجتماعية تقادمت في التاريخ وتنامت وحققت لنا انتصارات جليلة. لقد اجتهدوا في صناعة النخبة الوكيلة ثقافيا وفكريا عنهم بين ظهرانينا وأبرزوهم ولازالوا في مسعاهم هذا يؤازرون هذه النخبة وينشرون لها أعمالها ويناصرون كل من يتمرد على الإسلام وموروثنا العقدي (سلمان رشدي مثلا). لقد أصدر الحاكم العسكري الفرنسي في الجزائر 1937 أمرا يقضي بإعدام كل مواطن جزائري يصر على مخاطبة السلطات الفرنسية المحتلة باللغة العربية. هل ثمة دليل أقوى من ذلك على مشروعهم في اقتلاعنا ثقافيا من موروثنا؟ وبعد أن نجحوا في صناعة النخبة الوكيلة ثقافيا عنهم مكنوها سياسيا من متابعة هذا الدور حتى يومنا هذا. لقد نجح مشروع التغريب نجاحا خطرا سيؤثر أيما تأثير على مستقبل الثقافة عندنا. 5 ـ محطة قيام الكيان الصهيوني: ولكي يحرسوا (إنجازاتهم) التاريخية في المحطات الأربع الماضية نشطوا في إقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين ليكون بمثابة الهراوة التي يضربوننا بها كلما بدأنا نستيقظ ونستحضر موجبات المقاومة التاريخية. ويخطئ من يظن أن قيام الكيان الصهيوني هو استجابة لحاجة ومطلب شعبي جياش ينتظم يهود العالم، بقدر ما كان نتيجة لتقدير استراتيجي محسوب من طرف الغرب لتوظيف ما أسموه بـ(المشكلة اليهودية) في حماية وحراسة ما أنجزوه في المحطات الأربع الماضية. إن تحالفهم التاريخي مع الصهاينة لا ينطلق من تعاطف مع الصهيونية تعاطفا فعليا بل هو في واقعه توظيف لها في خدمة الاستراتيجية الغربية العليا في منطقتنا ولتحقيق استهدافاتها الخطيرة، فالكيان الصهيوني هو وسيلتهم الفعالة للضغط على خياراتنا التاريخية. تشخيص حال الأمة لابد بعد أن نتسلح برؤية تاريخية تفسر السياق التاريخي الذي نحن فيه، نقول، لا بد من ربط ذلك بتشخيص حال الأمة الآن. ومن خلال رؤية عامة، وقراءة عامة، للمشهد الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية نستطيع أن نقرر بلا تردد بأن الأمة تعاني من ثالوث خطير للغاية: الطغيان السياسي وسوء توزيع الثروة والتحلل الاجتماعي. نقصد بالطغيان السياسي استئثار القلة القلية ب (القرار) إذ في مجتمعنا السياسي ـ وضمن الدولة القطرية ـ سنلاحظ أن هناك أربع شرائح اجتماعية: الأقوياء (قلة قليلة تستأثر بالقرار السياسي) والساعون نحو القوة (الحاشية السياسية والاجتماعية العالقة بالأقوياء) والشريحة السياسية (المثقفون والكتاب وصناع الرأي العام) والشريحة غير السياسية (وهي الغالبية العظمى من الأمة المطحونة بالعوز والجهل والمرض وبهمومها اليومية من بحث عن عمل وطلب للدواء وشراء الغداء وتأمين ملابس للأطفال وسكن صالح للاستعمال البشري وغير ذلك). نود أن نؤكد هنا بأنه من خلال دراسات علمية وموضوعية تبين لنا أن شريحة الأقوياء ـ عدديا ـ أقل من واحد بالمائة من إجمالي عدد الأمة التي يجاوز المليار وربع المليار نسمة ما بين الحكم والتجارة (وهو أمر محرم شرعا) صار القرار يمثل مصالح القلة ويفاقم من انحياز السلط السياسية اجتماعيا. نتج عن ذلك تضرر الأغلبية من القرار وبدا يبرز من حين لآخر التذمر العلني والكامل، استدعى ذلك بروز ظاهرة القمع في امتنا وتضخم أجهزة الأمن، ونتج عن ذلك المواطن المسكون بالخوف والتوجس والترقب. نقصد بسوء توزيع الثروة هذه الفروق الخيالية في الدخول بين الناس. ثمة ناس عندهم فوائض لا يدرون ما يفعلون بها وآخرين ليس عندهم ما يكفيهم ليومهم ما بين الشروق والغروب. هذا الخلل العظيم (غياب الطبقة الوسطى الكبيرة) أدى إلى ظهور أنسقة الحرمان وظهور المواطن المحروم من الحد الأدنى للعيش الكريم اللائق بالإنسان. فإذا أضفنا الخوف مع الحرمان سنلاحظ أن ذلك يؤدي إلى تشكيل المواطن مفتوح على كل أشكال التحلل ليس بمعناه الخلقي فقط بل بمعناه المؤسساتي (لذلك تنتشر الرشوة في بلادنا والفساد الإداري). هل العمل السياسي ضروري؟ من ضمن أسباب التدهور في تاريخنا الإسلامي هو ابتعاد الشرفاء والفقهاء والعلماء عن ساحة السياسة وتركها لغيرهم مما أعطى الفرصة (تاريخيا) لكل أعداء العدالة الاجتماعية والشرف والاستقامة لكي يفعلوا بأمتنا ما فعلوا ولازالوا يفعلون. إن عودة الشرفاء والفقهاء والعلماء لعالم السياسية والعمل السياسي شرط فني وموضوعي في عملية الإصلاح الذي ننشد. لكن من المهم الوعي بأن هذه العودة يجب أن تكون منظمة وتقوم على استبصار حقيقي وفهم موضوعي متوازن لطبيعة الإشكالية التي تواجهها الأمة وتشعبها وتفرعها. ويجب أن يسبق ذلك عملية أيضا هادئة من الإرشاد السياسي والتثقيف الاجتماعي والتربية المتكاملة للكوادر الراغبة في العمل السياسي. وهذا يتطلب العناية بتكوين (الموجه الفكري) وليس (الخطيب) ذلك لأن الأول يتعامل مع (نظام المفاهيم) والثاني يتعامل مع ( نظام القيم) ونحن نعاني مشكلة كبيرة في المفاهيم وليس القيم. الأصول العلمية في العمل السياسي أول هذه الأصول (القراءة العلمية للمشهد السياسي) فالمشهد وتفاصيله هي التي تفرض خطة العمل وليس من الحذاقة وضع الخطة بمعزل عن تفاصيل المشهد. لذلك نقول بأن ما يصلح من خطط عمل سياسي في دولة ما قد لا يصلح في دولة أخرى. الأصل الثاني هو (الاقتصاد في القوى) وعدم تبديدها في مواجهات غير محسوبة وغير مأمونة النتائج والحذر من الاستدراج نحو ذلك تحت أي مبرر من المبررات. الأصل الثالث هو (التشخيص العلمي والموضوعي للمشاكل الفعلية التي يعاني منها جمهور الناخبين) والتركيز على ذلك وعدم التوغل في فضاء مشاكل موهومة أو متخيلة أو تمثل هم الأقلية غير المحسوبة سياسيا. الأصل الرابع هو (تنمية النقد الذاتي والمراجعة والمدارسة والمرونة) وعدم الإصرار على خطوط فاشلة لم تحقق نتائج وإذا كانت (النية الخالصة) أساسية في الدين فإن المهم في السياسة ليست النوايا بل ( النتائج). الأصل الخامس (بلورة نظرية عملية وموضوعية ومرنة في العلاقات الشعبية) ومتابعة تفعيل ذلك في ثنايا مؤسسات المجتمع السياسي وعدم الاكتفاء بجمهور المساجد وهو جمهور فيه المزايا (الكمية) لكن ليس فيه المزايا (النوعية) المطلوبة للعمل السياسي. هذا رأي لا أدعي له العصمة من الخطأ والزلل ومن كان عنده شيء أحسن منه فنرجوه ألا يحرمنا من ذلك والله ولي التوفيق. أستاذ العلوم السياسية ـ الكويت