حدثان بارزان في ساحة العمل السياسي الإسلامي يستدعيان من القائمين على الشأن الإسلامي ومن المهتمين به ومن قادة الفكر والرأي داخله وقفة تحليلية عميقة. الحدث الأول يتجلى في الدعوى القضائية المرفوعة في تركيا لحل حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم. دون الدخول في تفاصيل ما وقع خ وهو منشور ومعلوم للجميع خ فإن هذا المسار خ لو قدر له أن ينجح كما خطط له العلمانيون المتطرفون الأتراك بضوء أخضر من جهات دولية - ستكون له تداعيات وازنة على تطور العمل السياسي الإسلامي السلمي والحضاري في العالم كله لجهة تضاؤل الأمل في منهج الإصلاح القائم على المشاركة في المجتمع والتفاعل الإيجابي مع مكوناته و تنامي النزعات التي لا ترى بديلا عن العمل خارج الأطر القانونية وبأساليب عنيفة في غالب الأحيان.الحدث الثاني هو المواجهة المعلنة من النظام المصري على حركة ( الإخوان المسلون) بالرغم من تجذرها في الشارع وتغلغلها في المجتمع بكل فئاته وشرائحه و حرصها الدائم على العمل العلني السلمي لدرجة اتهامها من الخصوم و حتى من الأصدقاء بتخدير الجماهير وعدم دفعها في خط التغيير المجتمعي الشامل هذا الإصرار الجنوني من النظام المصري لإقصاء حركة بمثل هذا الحجم وبتلك المواصفات قد يدفع جماهيرها ومتتبعي تجربتها في عموم الوطن العربي والإسلامي إلى اليأس من مسار العمل السلمي الهادئ والمتدرج. إننا هنا لسنا أمام حدثين معزولين بل هما يؤشران إلى عودة التحالف بين النظام العربي الرسمي والنظام الدولي وكلاهما يعتبر الحركة الإسلامية خ سلمية كانت أو جهادية - مصدر تهديد له. يعضد هذا التحليل كون الولاياتالمتحدةالأمريكية تراجعت عن قبولها المعلن سابقا بمشاركة الأحزاب الإسلامية المعتدلة في العملية السياسية بحجة أن هذه الأخيرة تحمل مشروعا قيميا يستند إلى منظومة مخالفة للمنظومة الغربية ومن هنا وجب خ حسب هذا الرأي النافذ في البيت الأبيض خ الاستمرار في دعم الأنظمة الحالية حتى يتوفر بديل سياسي اقرب إلى قيم الغرب وثقافته ، بما يتطلبه هذا الموقف من غض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في تلك البلدان. الحدثان يستدعيان من جهة تحليلا معمقا على ثلاث مستويات : مستوى النظام الدولي ( الولاياتالمتحدة أساسا ) من خلال رصد وتفكيك عناصر القوة والضعف في بنيته على ضوء التطورات الحاصلة في كل من العراق وافغانستان وفلسطين. ثم مستوى استشراف مسار ( أو مسارات ) التغيير في النظام الرسمي العربي في علاقته بالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة ومتواصلة. وأخيرا مستوى مقاربة اتجاه تطور العمل السياسي الإسلامي في السنوات القليلة القادمة في ظل السياقين الدولي والاقليمي . (2) بما أنه من الصعب الإحاطة في هذه المقالة بمستويات التحليل سالفة الذكر فإنني اقتصر على التذكير ببعض الثوابت التي يقوم عليها العمل السياسي انطلاقا من الوعي العميق بالواقع وبالمرحلة التاريخية وشروطها ، من ذلك: -1 القراءة الموضوعية لتطورات لمشهد السياسي : القراءة السليمة المبنية على معطيات علمية وموضوعية هي المدخل الحقيقي لكل عمل سياسي راشد، وكل قراءة خاطئة لما يعرفه المشهد السياسي من تطورات ظاهرة أو كامنة فإن ذلك يقود إلى سوء تقدير الموقف وتفويت الفرص وعدم امتلاك المبادرة في اللحظة المناسبة. -2 تجنب الانجرار نحو مواجهات غير محسوبة : بعبارة أدق تجنب الدخول في حروب الوكالة وهي تلك الصراعات التي يخوضها حزب ما ضد حزب آخر أو جهة ما ضد أخرى لخدمة أطراف تتحكم في اللعبة عن بعد . - 3 التشخيص العلمي للمشاكل الكبرى للوطن وترتيبها حسب الأولويات، وعلى ضوئها يتم وضع برنامج للتحرك وعقد التحالفات ونسج العلاقات والموازنة الدقيقة بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي. - 4 تنمية النقد الذاتي : العمل السياسي هو مجال الاجتهاد والنسبية والموازنة بين المصالح والمفاسد أو بين المفاسد بعضها البعض والاستعداد الفكري والنفسي لتغيير المواقف تبعا لتغير الظروف المحلية والدولية.إنها القدرة على التكيف مع كل لحظة تاريخية بما يناسبها من وسائل وآليات. 5 استحضار أن المهم في السياسة ليس النوايا بل النتائج : مهما تكن نيتك صالحة ومهما تكن أخلاقك طيبة، فإن انتظارات المواطنين تتركز أساسا على ما تحققه على أرض الواقع من إنجازات وبما تفك لصالحها من معضلات الحياة اليومية ، النتائج هنا أهم من النوايا والشعارات. -6 التركيز على الكم و النوع جنبا إلى جنب : لا شك أن القوة الجماهيرية مطلوبة لدى كل تنظيم سياسي ومن خلالها يكتسب مشروعيته التمثيلية ،لكن هذا الأمر يجب أن لا يحجب حقيقة مفادها أن الجماهير ليست قوة فعلية يمكن الاعتماد عليها في كل وقت بل لا بد من استقطاب الكفاءات النوعية ، وهي التي ستوكل لها مهام التخطيط والتنفيذ. -7 المعارضة لا تعني المواجهة أو الصراع ولاتعني الموادعة أو السكون : إن التموقع في صف المعارضة ليس معناه السير في طريق المواجهة الحتمية مع السلطة. فهذان مفهومان مختلفان : مفهوم معارضة السلطة يعني القبول بالنسق العام للنظام مع العمل على إصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بجميع الوسائل المشروعة بما فيها التعبئة العالية للشعب للضغط في اتجاه إحداث عملية التغيير المطلوبة.أما الصراع مع السلطة فيحيل إلى رفض ضمني للنسق العام للنظام، وهذا المسار له وسائله وأدواته وخطابه. وغالبا ما تكون له آثار مدمرة على الحزب السياسي وعلى المجتمع ككل . المعارضة القانونية لاتعني الموادعة بقدر ما تقتضي نضالية عالية، وحركة دؤوبة، وخطابا معبئا، وقيادة تتسم بنكران الذات، وتستصحب فقها يحسن الموازنة والترجيح. - 8الابتعاد عن الفكر الإطلاقي :إذا كان هناك من ميدان لا يتسع للفكر الإطلاقي بامتياز فهو ميدان العمل السياسي الذي لاوجود فيه للخير المطلق أو للشر المطلق. الفكر الإطلاقي ينطلق من مقولة خذوا الإسلام جملة أو دعوه ويؤدي إلى مفاصلة القوى السياسية المنافسة والتيارات الفكرية الأخرى ويستبعد التعاطي الإيجابي مع السلطة ويتحول إلى فكر متمركز حول الذات ويسيء الظن بالدولة والمجتمع . وقد أثر عن أحد السلـف قوله: العاقل ليس هو الذي يعرف الخير من الشر ولكن هو الذي يعرف خير الشرين . (3) مما يستلف النظر آن انسداد الأفق الذي يعيشه العمل السياسي الإسلامي في كثير من الأقطار لايرتبط بأجندة صيغت من داخل تلك الأقطار فحسب وإنما برهانات دولية وبتدخلات من قبل قوى وازنة في الساحة العالمية . وهنا نطرح التساؤل التالي :إذا كانت أغلب الحركات الإسلامية قد أحدثت قطيعة مع فكر المفاصلة والتعالي على المجتمع والسلطة والتيارات المنافسة، أليس من شروط اللحظة التاريخية الدخول في حوار معمق من أجل إحداث قطيعة مع فكر المفاصلة ليس تجاه الأنظمة القطرية وإنما تجاه النظام العالمي المؤثر بما هو قوى حية، ولوبيات ضاغطة، و مؤسسات إعلامية قوية، ورجال فكر وإعلام بارزين. وقد ظهرت لي فكرة أبسطها للنقاش العام وهي تقوم على تكوين وفد عالمي يمثل الأحزاب الإسلامية الكبرى وبعض الشخصيات الإسلامية العالمية ( كالشيخ القرضاوي مثلا) يضع برنامجا للحوار والتواصل مع القوى المؤثرة في السياسات الدولية بما في ذلك رؤساء دول مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية ، فرنسا، انجلترا، روسيا، الصين... ثم رؤساء تحرير كبريات الصحف العالمية، ورؤساء أحزاب حاكمة ، رؤساء جامعات عريقة، مراكز أبحاث عالمية....على أن يتم الإعداد الجيد لهذه المبادرة بعد أن يتم بسط أهدافها وأجندتها أمام الرأي العام المحلي ( العربي) والدولي. الفكرة هنا تدعو إلى تجاوز منطق المواجهة الشاملة مع القوى الدولية المؤثرة والدخول معها في حوار موسع ومد جسور التواصل والتعارف معها.