عندما دخلت الجيوش الأنجلوأمريكية العاصمة بغداد، صبيحة التاسع من أبريل من العام 2003, دونما مقاومة تذكر من لدن جيش تبخر، وقيادات توارت عن الأنظار، تاركة المدينة مفتوحة أمام الغزاة، زعمنا في صبيحته أن بالأمر سرا ما، رتب له الرئيس/الشهيد صدام حسين بعدما تأكد له بالواضح القاطع، أن المواجهة النظامية المباشرة مع ترسانة العدو غدت من قبيل المحال، أعني من صميم الإقبال على الانتحار. وعندما انطلقت المقاومة، أياما معدودات فقط على احتلال العراق ودخوله بغداد، تأكد لدينا ذاك الزعم، زعمنا الخاص بأن ترك بغداد للفاتحين الجدد إنما بات من مضمار الكر والفر ما دامت سبل المواجهة، بقصر مدتها كما بطولها، سيكون من شأنها إفناء المدينة بشرا وحجرا وشجرا. قلنا في حينه، كما على هامش كل ذكرى سنوية تؤرخ للحدث، حدث التاسع من أبريل، إن عاصمة الرشيد قد وقعت تحت الاحتلال بمنطوق واقع الحال وبمنطوق مجلس الأمن أيضا، لكننا أردفنا بصلب ذلك بأن المدينة لم تسقط، ومدينة كبغداد عصية على السقوط أيما يكن العصي، حتى وإن أضحت رهينة مرتهنة حقا وحقيقة من تاريخه. صحيح أن المدينة دمرت، ومتاحفها نهبت، ومعالمها شوهت، ومقدساتها أهينت، وساكنتها كابدت التقتيل والتهجير بالجملة، وأحياؤها فصلت بالأسيجة بعضها عن بعض، لكن ذلك لم ينل من كبرياء المدينة، ولا من مصابرة ومكابرة أهلها وذويها، ولم يفلح في تقويض أشكال العيش المشترك الذي احتضنته المدينة لمئات من السنين مضت. وصحيح أيضا أن بغداد باتت منذ التاسع من أبريل 2003, مدينة الجثث المجهولة الهوية، ومكمن السيارات المفخخة، والعمليات الفدائية من هذه الجهة كما من تلك، لكنها بالآن ذاته المدينة التي احتضت المقاومة، ولم تترك للاحتلال متنفسا يخفف عنه الخسارات المتزايدة، أو يمنحه سبل السكينة، التي غالبا ما تستتبع أي احتلال قبلما تستطيع المقاومة، أية مقاومة، ترتيب أوراقها، والإعلان عن نفسها جهارة على أرض الواقع. إن الذي جهله الاحتلال الأنجلوأمريكي أو تجاهله وهو يطأ أرض بغداد، إنما حقيقة أن ثمة مدنا تضمر اللعنة لمن يقترب منها، أو يضمر لها السوء والضغينة، أو يتجرأ فيتطاول على مقدساتها ورموزها، فتنفجر بوجهه بردود فعل قد لا يدركها المرء بالتحليل الملموس، لكنه لا يستطيع تحاشي أشباحها المتقاربة والمتباعدة تماما كالسراب العائم. وعلى هذا الأساس، فإن ممانعة بغداد على السقوط، وقد مر على احتلال البلد أكثر من خمس سنوات، لا تشي فقط بتوافر مقاومة عنيدة، راهنت منذ الأسبوع الأول للاحتلال، على رفع لواء حرب العصابات لتحرير البلد، وتخليص عاصمته من ارتهان أكدت الأيام أنه تم دون موجب حق يذكر، بل وتشي أيضا بأن ثمة لعنة مضمرة لم تتأخر في إشهار أنيابها: هي لعنة بغداد التي طاول مداها ولهيبها الرئيس الأمريكي أولا، هو الذي لطالما تباهى بمقولة تحرير العراق وتحويله إلى أنموذج في الديموقراطية للمنطقة، بعدما لم تعد مسوغة أسلحة الدمار الشامل وارتباط الرئيس العراقي بتنظيم القاعدة، حجة قائمة ومقنعة. إن اللعنة المقصودة هنا لم تطاول الرئيس الأمريكي في شعبيته بداخل أمريكا وبالعالم أجمع، ولا طاولته فقط بجهة إفسادها لنشوة النصر الحاسم الذي منى النفس بإدراكه، بل وطاولت مشاريعه لصياغة شرق أوسط جديد، يكون العراق منطلقه وكل دول المنطقة مصبه ومكمنه، بالشكل كما بالجوهر. لم يعتبر جورج بوش، بعد خمس سنوات من المكابرة والتمادي في الدفع بالجنود، لمؤازرة جيش متعثر الخطى هناك ببلاد الرافدين، بل تبنى الخطة الأمنية تلو الخطة (ببغداد كما بكل الأنبار) لتحقيق نصر مطلق، يدرك جيدا أنه لم ينله احتلال من ذي قبل، بظل المقاومة وحروب العصابات الطويلة المدى، المستنزفة قطعا للموارد والبشر. إن لعنة بغداد لن تقتصر على مطاولة الرئيس الأمريكي وهو بسدة الحكم، بل ستطاوله أكثر عندما يرحل عن البيت الأبيض، ويتأمل في قرارات اتخذها (من قرار الغزو وحل الجيش العراقي وإعدام الرئيس/الشهيد صدام حسين، إلى إقرار فيدرالية محيلة على تقسيم البلد) وكان لها بنفس المقاومة رد صدى عنيف، بتصعيد المقاومة وتوسيع مجالها بالجنوب كما بالشمال. إن المقاومة العراقية، عندما تدعو لانتخاب خلف للرئيس الحالي من الحزب الجمهوري (حزب بوش وعائلته) فهي بذلك إنما تعلن جهارة، أن لها ثأرا مع الحزب إياه لن يندمل. هي تريد أخذه من ذات الحزب مباشرة لا من سواه، على الرغم من أن الحزبان لا يختلفان كثيرا في التصور، بقدر اختلافهما في التكتيك والترتيب. لم تقتصر لعنة بغداد على الاحتلال، بل امتدت لتشمل الحكومات العراقية التي ولاها الاحتلال إياه تباعا، فانصهرت بمشاريعه انصهارا، وتماهت مع ترتيباته وخططه، فعاضدته بجندها وخطابها، عندما كان يستهدف المدن ويفصل الأحياء، ويعذب الناس بالسجون، وينكل بالرافضين للاحتلال وللعملية السياسية، ويمطر المداشر والقرى بوابل الصواريخ والقنابل، تحت مسوغة وجود جماعات إرهابية، أو أعضاء من تنظيم القاعدة، أو مجموعات تكفيرية أو ما سواها. إن لعنة بغداد لم تصب حكومات الاحتلال بالمباشر الحي، هي المحصنة بالمنطقة الخضراء تماما كمصالح الاحتلال وأتباعه، بل حرمت عليها التجوال بالعاصمة، فنصبت لجنودها نقط تفتيش وهمية، وزعت لها الناسفات بالطرق، واستهدفت مكاتبها ووزاراتها بالصواريخ عن بعد، حتى بات كل من هو بالحكومة أو من مقربيها، هدفا نادرا ما تحول دون إدراكه حماية ما أو تخفي أو تنكر باللباس. إن حكومات الاحتلال المتتالية تدرك جيدا أن لا سلطة لديها على بغداد بالليل (حتى وإن كان لها بعض من السلطة عليها أطراف النهار)، وتدرك بالقطع أن من لم تصبه المقاومة اليوم (كل المقاومة، بما فيها تنظيم القاعدة) ستصيبه في يوم من الأيام، كما لو أن المسألة مجرد مسألة وقت ليس إلا. لكن الحكومات إياها تكابر وتدعي، لا بل وتعلن عن إنجازات، ولا تتوانى في الادعاء بأنها مالكة لزمام الأمور. المقاومة بهذه الجزئية، ليست في عجلة من أمرها، هي تعمل فوق أرض لها، تدرك تضاريسها ومنعرجاتها، لذلك فهي كمن يتصيد طريدة لا يفصل بينها وبين اللظى، إلا الخروج من الجحر والمبادرة بالخطى. أما الرافد الثالث للعنة بغداد، فيطاول دولا بالخليج، تآمرت على العراق، وفتحت لغزوه أراضيها، وقبلت بقواعد للأمريكان ضربت بلاد الرافدين منها وعبرها، وسوغت لهم السلوك والسياسات، ونسقت معهم لترتيب تقسيم العراق، بدراية من لدنها للخلفيات أو بجهالة منها، هي التي تماهت مع الأمريكان لدرجة الاندغام، واعتبرته المنقذ/المحرر الذي لا يرد له طلب. إن اللعنة المقصودة بهذا الباب، لا تحيل فقط على قواعد للأمريكان بذات الدول، تتصرف بواسطتها كما لو أنها دولة داخل هذه الدول، ولا على انتفاء مبدأ السيادة بدول تجهل ما يرتب لها بالمستقبل، بل وتحيل أيضا على الخطر الشيعي الذي أضحى منذ احتلال العراق، هوسا يهدد نظما بالخليج إن بغداد التي لفظت هولاكو، واستعصت على الأغيار، وبنت للفنون والعلوم والآداب، تنفر من كذا طموحات واستراتيجيات...إن لها لعنتها التي تحميها من هؤلاء كما من أولئك...تماما كما أن للكعبة رب يحميها...رب يرانا بالمجرد والنسبي، لكننا لا نستطيع رؤيته إلا بالتأمل والإيمان.