إنها "المفاجأة" التي لم تكن في الحسبان، بغداد الحصن الأخير الذي كان الجميع يتوقع أن يكون مقبرة للغزاة، ودرسا مفيدا "للعلوج" و"الأوغاد" و"الطراطير"، سقط دون أدنى مقاومة، فانتصب برجان في ذهن المتتبع: هل هي خطة أم خيانة؟ وليس هناك احتمال ثالث. إن الحرب تقوم على المباغثة ومفاجأة العدو، ونزع المبادرة من يده، وسحب البساط من تحت رجليه، ومعروف لدى العسكريين وغيرهم أن "الحرب خدعة"، ولكن السؤال الملح الذي ستجيب عنه الأيام القليلة القادمة لا محالة، هو من المخدوع ومن المقصود بالخدعة؟ فإن سقط العدو في الفخ فهي الحرب والمكيدة، وإن كانت الأخرى لا قدر الله ، فهي الدروس والعبر التي يجب أن نقف عندها حتى لا تتكرر المأساة. يحز في النفس أن يسقط مسلم مسلما، ولو كان ظالما، بمساعدة كافر، ويقدح ذلك صورة في الذهن، ويستفز الذاكرة التي تحتفظ بمثل هذه الصور المخزية، كما يحزن القلب أن يبتسم العدو مزهوا، وهو يرى بعض "المواطنين" يظهرون الذل والشماتة بعزيز قوم ذل. حلقة ملعونة ونقطة سوداء لو تجاوزها قادتنا وزعماؤنا لأراحونا من أمثال هذه الصور المخزية، ماذا لو أحب الشعب حاكمه؟ وماذا لو لم يظلم الحاكم العربي شعبه ويخضعه لرغبات الأعداء؟ وماذ لو لم يتخل الحكام العرب عن "زميل" لهم في العراق؟ التاريخ الذي لم يقع هو التحام الحاكم بالشعب في الرخاء، ليلتحم به الشعب في الشدة، فلو خضع الحاكم العربي لإرادة الشعب واختاره وأحبه، لدافع الشعب عن اختياره، ولن تنزعه منه أي قوة على وجه الأرض، فإرادة الشعوب لا تهزم أبدا. أكيد أن الحيرة التي تعيشها الأمة الآن لن تدوم طويلا، فالانهيار المفاجئ لمدينة بغداد يوم الأربعاء 9 أبريل 3002، الذي فجر العديد من علامات التعجب والاستفهام، ستكشف عن أسبابه الأيام المقبلة. وإذا كانت الحقيقة هي الضحية الأولى للحروب، فإن طبيعتها (الحقيقة) هي الظهور، ولن تحتجب طويلا، خصوصا إذا كان هناك من يطلبها ويترصدها ويتسابق ويتنافس مع غيره للكشف عنها. السؤال الملح الذي يضغط على الأمة، ولم تجد له جوابا شافيا حتى الآن، هو أين اختفت القوات العراقية، من حرس جمهوري وجيش نظامي وفدائيي صدام، وكذا القادة العراقيون؟ لقد أدى اختفاء صدام إلى انقسام حاد في الأمة، وفي صفوف محلليها ومفكريها وخبرائها العسكريين، فكل يحاول من جهته فك طلاسم وألغاز ما حدث في ذلك اليوم الأسود من تاريخ هذه الأمة المجروحة. "صفقة" المتشائمون يتحدث هذا الفريق عن "صفقة" أبرمت مع الغزاة، تضمن خروج صدام حسين والمقربين منه بسلام من بغداد، بل إن أحد المصادر العسكرية، رفض الكشف عن اسمه، قد "كشف" أول أمس الخميس عن "معلومات" خطيرة مفادها أن الرئيس العراقي صدام حسين قد حضر عدة اتفاقات في الفترة السابقة، وهي التي استعملها الغزاة في دخولهم إلى بغداد، مضيفا أن الرئيس العراقي لم يمتثل للإنذار الأخير الذي وجهه له بوش الصغير قبل بداية العدوان، ليعطي المبرر للغزاة من أجل بدء العدوان، كما أفاد المصدر ذاته أن المجاهدين العرب قد قٌدموا لقمة سائغة لأمريكا، وتابع المصدر العسكري أنه تم كشف الوحدة التي كانت مكلفة بالالتفاف على العدو بعد دخوله إلى بغداد، حيث تمت إبادتها بعد تسريب معلومات سرية عنها، وهذه المعلومات لم يكن يعلمها سوى صدام. ووصف ما حدث بأنه خيانة، ومن تتبع البرنامج المباشر "في الواجهة"، الذي تبثه القناة الفضائية السودانية مساء يوم الخميس، يكون قد اطلع على "الخبر العاجل" الذي قرأه منشط البرنامج على الهواء مباشرة، حيث كان يستضيف العديد من الخبراء العسكريين، والذي يشير إلى ما ذكرناه آنفا. "أمل" المتفائلين: الجزء الثاني من الأمة ما زال يعيش على الأمل ويقضي أوقاتا عصيبة، منتظرا ما سيحصل في الساعات أو الأيام القليلة القادمة، وتزكي ذلك بعض الأنباء التي تتحدث عن خطة صدام التي وضعها من أجل إعادة ترتيب وتوزيع الأدوار في العاصمة العراقية بغداد، وتقضي الخطة حسب بعض المصادر العسكرية العراقية رفضت الكشف عن اسمها بمنع الجيش العراقي وأية تشكيلات عراقية مقاتلة أخرى من مواجهة القوات الأمريكية والبريطانية في هذه المرحلة، والاختفاء تماما من طريق قوات التحالف انتظارا لمرحلة حاسمة. كما تحدث البعض الآخر عن الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها القوات العراقية، واعترف محللون أجانب بأن الجنود العراقيين يقاتلون بشجاعة كأفراد، ولكنهم فشلوا كقوة مترابطة بسبب تدمير مركز القيادة. وأشار البعض أيضا إلى تأثير فقدان القائد الأعلى صدام حسين. وما تأكد لحد الآن هو أن المعركة لم تحسم بعد، فإذا استحضرنا التضخيم الإعلامي والحرب النفسية التي وصلت إلى أشدها في هذا العدوان، وكذا المصدر الوحيد للمعلومة (البنتاغون)، بعد عملية "تهجير" الصحفيين وقصفهم في فندق فلسطين ببغداد، وإخلاء العاصمة من الشهود والصحفيين الأحرار من قبضة البنتاغون الأمريكي، فإن الحديث عن نهاية الحرب بانهيار تمثال صدام يبقى غير دقيق. فمن هم الأقرب إلى كبد الحقيقة؟ معروف أن التاريخ قد أخذ قلمه ليخط ما يجري بالضبط على أرض العراق الشقيق، وذلك ما ستكشف عنه الأيام أو الأسابيع أو حتى السنين المقبلة، إلا أننا يجب أن نقف وقفة تأمل في هذه اللحظة التاريخية التي تعيشها الآن الأمة الاسلامية. ماذا يريد الغزاة؟ لاشك أن وراء الحرب ما وراءها ولايختلف اثنان حول أن المنتصر في الحرب هو الذي يملي شروطه وينفذ إرادته على الأرض، فماذا تريد الإدارة الأمريكية من العراق؟ في 06/12/2002 صرح الرئيس الأمريكي بوش الثاني بعد توقيعه الميزانية العسكرية قائلا :" إن أحداث 11شتنبر أثبتت لنا أن أمننا يعتمد على بسالة وقدرات قواتنا المسلحة التي طلبنا منها أن تقضي على الإرهاب، وأن تحرر شعبا مقيدا في الجانب الآخر من الكرة الأرضية". وفي يوم الإعلان عن بدأ العدوان الشامل 21/3/2003، صرح نفس الرئيس أنه ماض إلى أهدافه من الحرب، والتي دشنها ضد "الإرهاب" وحددها في "نزع أسلحة الدمار الشامل وتحرير الشعب العراقي"، إنهما هدفان اثنان براقان، أحدهما يدغدغ الرأي العام العالمي (الخارجي) والآخر يدغدغ عواطف الرأي العام العراقي في الداخل. من يصدق؟ لقد ظهر بالملموس أن العالم كله لم يصدق بوش وتابعه بلير، والدليل تلك الملايين التي نزلت إلى الشوارع في القارات الخمس، رافعة صوتها بكلمة واحدة "لا لسفك الدماء من أجل النفط ". وها هي بشائر "الحرية "الموعودة تظهر على شاشات الفضائيات الدولية والعربية، حيث صور السلب والنهب والسرقة التي يمارسها البعض أمام أنظار القوات الأمريكية والبريطانية وعدساتها "المحايدة". الشعب العراقي الأبي ضرب أروع الأمثال، وقدم الدلائل القاطعة على عدم تصديق كذب الغزاة المحتلين، ونذكر هنا دليلين اثنين فقط: أولهما أن الشعب العراقي لم يفر من أرضه، وترك خيم اللاجئين خاوية على عروشها، وحمل السلاح في وجه المعتدي الذي كان ينتظر أن يستقبل بالرقص والورود، والدليل الثاني هو عودة العراقيين إلى أرضهم بعد اندلاع الحرب للدفاع عنها ودحر عدوهم المحتل. وإذا كان العالم قد كشف كذب الغزاة الذين يعلنون أهدافا براقة في وسائل الإعلام، ويخفون أهدافهم الحقيقية لينفذوها على الأرض، فإن فضح هذه الأهداف إعلاميا يجب أن ترافقه مقاومة ومدافعة وعرقلة لخططه المدمرة على الأرض. الدروس المستخلصة: إن صورة أحد جنود الغزاة "المارينز" وهو يغطي وجه تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس بقلب بغداد قبل تحطيمه، لن ينساها هذا الجيل وستنقش في ذاكرته، وصدق من قال >لقد كانت أقل من دقيقة، ولكنها أطول من دهر بالنسبة لكثير من العرب والعراقيين<. ونفس الصورة تتضمن وتكثف الكثير من الدلالات: 1 "العراقيون" الذين حطموا التمثال بمساعدة الدبابة الأمريكية وجروه على الأرض في ذلك الحي الراقي الصغير، ليسوا هم الشعب العراقي الذي صبر وصمد وقاوم، وفاجأ الجميع بمقاومته البطولية لأكبر قوة عسكرية في التاريخ. 2 القادة العراقيون عندما اندمجوا مع نبض الشعب والأمة تبنتهم الأمة واحتضنتهم في قلبها وساندتهم ماديا ومعنويا، ولكن إن ثبت أنهم قدموا اليد للعدو فسوف تلفظهم كما لفظت من قبلهم. 3 القادة العرب الذين كانوا يتفرجون على مصير أحدهم، لا شك سيصلهم الدور ليصعدوا الخشبة، ولن يجدوا من يقف بجانبهم. 4 الشعوب العربية قد تململت وعبرت عن غضبها وصامت ودعت ودعمت وقامت ببعض واجبها، إلا أن ما ينتظرها يتطلب المزيد من اليقظة والعطاء، والأولوية لتحطيم حاجز الخوف تفرض إرادة الشعوب. 5 الأنظمة والحكومات والرموز ماضية، ولكن الأمة والشعوب باقية. وإذا دخلت بعض الأنظمة التاريخ، فإن تسطير المستقبل يجب أن يكتب بأيد عربية مخلصة. 6 إذا كان بعض العراقيين، أو جلهم، يكرهون نظامهم لأنه كان ظالما، فإن أمريكا ليست أحب إليهم من نظام صدام، فغمامة فرحة إسقاط رمز الظلم بمساعدة من هو أظلم لن تلبث أن تنقشع، ليحمل العراقي المخلص فأسه ويحطم تمثال الظلم الأجنبي. 7 إن هذه الأمة رغم كل ما مر عليها في تاريخها من نكبات ونكسات وهزائم فإنها لم تيأس ولن تيأس، وما زالت تحمل بين جنبيها حب العزة والكرامة، ولا تطلب إلا قائدا مخلصا لتسير وراءه، وسترفض حتما كل "حرية" تأتي على ظهر دبابة من أجنبي بغيض. وأخيرا: هناك ثلاثة إرادات تتصارع في المنطقة، إرادة الغزاة المحتلين وإرادة النظام العربي وإرادة الشعب. فقد دشنت هذه الحرب باسم الشعب العراقي، وقطع العدو آلاف الكيلومترات من أجل "تحريره"، وتكبد الخسائر في الأرواح من أجل "نشر الديمقراطية"، واعتمد أضخم ميزانية في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية للوصول إلى هذه الغاية "النبيلة"، وهي "تحرير شعب مقيد"، فها قد زال "القيد" فهل سيرحل؟! ولن نقف عند إرادة النظام العربي التي تنسجم منصاعة إلى إرادة العدو، بل سنختم بإرادة الشعب وقواه الحية التي يجب أن تتسلم المشعل وتعيد الأمور إلى نصابها، فالكرامة والعزة وتاريخ بغداد وحضارتها ترفض حتما أن يقوم بتسيير شؤونها حاكم عسكري أمريكي، أو خائن أتى إليها على ظهر دبابة غازية. ويبقى عنوان المرحلة القادمة هو المقاومة، مقاومة المحتل وإفشال خططه الرامية إلى الهيمنة على ثروات العراق الشقيق، ومؤشرات اليوم الثاني من إسقاط تمثال صدام تبشر ببعض ما أشرنا إليه، ونقصد العملية الاستشهادية قرب فندق فلسطين، التي نفذها مجاهد أول أمس، وكذا اغتيال عبد المجيد الخوئي، الذي أتى بعمامته السوداء على ظهر دبابة أمريكية، وأكيد ستكون الأيام القليلة القادمة حبلى بالمفاجآت. إسماعيل العلوي