كانت الأسابيع القليلة الماضية مناسبة لتحريك الفضاء الفكري لحركة التوحيد والإصلاح عبر ندوات فكرية جهوية متعددة، حاملة معها أسئلة مهمة تبلورت في سياق ندوة السؤال المركزية، ولئن كانت هذه المناسبة ذات أهمية ودلالة كبيرة في مسيرة تطور التفكير الجماعي للحركة ، فإنها أيضا مناسبة طرح من خلالها بعض المشاركين هواجسهم بخصوص أهمية هذه المبادرة من أصلها، متسائلين: هل الحركة وهي تطرح السؤال حول مشروعها وتصوراتها تنطلق من إحساس بعدم الثقة في فكرها وكسبها الحالي؟ حديثي اليوم يندرج في قلب التفاعل مع هذه الهواجس والأحاسيس ، ذلك أن التساؤل عن المشروع والتفكير في مجرياته مسألة مبدئية وليست مسألة انفعالية، إذ أتصور بأن كل حركة مجتمعية وكل نخبة قائدة لمشروع مجتمعي تحتاج بالضرورة إلى الانتباه لأهمية الانخراط في سيرورة التفكير الجاد والجريء حول رهانات مشروعها الإصلاحي بشكل مستمر، لأجل التفاعل الحيوي مع المتغيرات العميقة التي تهم مجال اشتغالها وحراكها، حتى لا تسقط في الجمود والابتعاد عن أسئلة الواقع التاريخي والمجتمعي الحقيقية، فتصير إلى العزلة والهامشية وضيق الأفق. كما أنني أعتقد أن النقد الذاتي والتفكير الاستباقي مبدأ أساسي وعامل تحريك حقيقي للتطوير المستمر لأية حركة مجتمعية، إذ هو الذي يجعلها تدرك أن اجتهاداتها واختياراتها نسبية وهو الذي يصونها من فكر النهايات ومن الوثوقية الحدية مصداقا لقوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء:58)، إن التجديد بما هو اختيار منهجي نتوسله في فكرنا الإصلاحي، يستلزم الحاجة لفضاءات تفكير جماعية تضمن التلازم الموضوعي بين حركة الفعل وحركية التفكير، ولذلك قلنا في رؤيتنا :الإسهام في إقامة الدين وتجديد فهمه والعمل به...، فتجديد الفهم ملازم لتجديد العمل، واستدعاء الأسئلة الدافعة عملية منهجية ضرورية لتحقيق الوصل بين التفكير والتدبير، وبين المثال والواقع، وبين التحدي والاستجابة. إن سيرورة التفكير وفق فلسفة التجديد، تساهم في توسيع آفاق النظر في انشغالات المرحلة واهتماماتها الأساسية، وهي مدخل أساسي لأجل استشراف آفاق التحديات الجديدة، كما أنها تسمح باستباق الوضع المستقبلي لمجتمعنا، ومن ثم لاختياراتنا الأساسية، مما يحول دون السقوط في حبال الانسداد. في ضوء هذه الموجهات الدالة، تولدت الحاجة إلى ما سميناه مبادرة السؤال، التي نعتبرها في العمق، مبادرة استئناف وتطوير، ومبادرة استكشاف وتحصيل، ومبادرة إشراك وتفعيل: - فهي مبادرة استئناف وتطوير: لأن المفروض فيها أن تتفاعل مع سياقات بناء مشروعنا الإصلاحي، التي انبنت وفق مراجعات ومواقف تاريخية من العديد من القضايا، وعبرت عنها أدبياتنا التصورية وكتابات نخبة الحركة وقيادتها، ولذلك فإن مبادرة السؤال والتفكير الجماعي، تستأنف هذا الكسب الفكري الأصيل. - وهي مبادرة استكشاف وتحصيل: لأن الهدف الذي نقصده في العمق هو تحديد الإشكالات الفكرية الكبرى التي تواجه المسلم المعاصر في عصر العولمة، وصياغة الإشكالات التي من شأنها الإسهام في إطلاق حركة فكرية مجددة داخل حركة التوحيد والإصلاح، وفي محيطها الفكري والثقاافي، تساعدها في استكشاف واستنباط أسئلة التحديات الداخلية والخارجية لأمة الإسلام وأسئلة التحديات التي تواجهها الحضارة الإنسانية. - وهي أيضا مبادرة إشراك وتفعيل: إشراك يطمح إلى جعل الإنتاج الفكري هما جماعيا، لا تقوم به فقط قيادات الحركة الحاملة للشرعية التاريخية، بل أيضا يشارك فيه شباب الحركة وباحثوها وأساتذتها، وهي مبادرة تفعيل لأن السؤال الذي نرومه ليس ترفا فكريا ومجهودا إضافيا يتم على هامش تحديات المرحلة ورهاناتها العملية، بل ينبغي أن يكون السؤال الفكري الذي نطرحه متفاعلا مع الأسئلة المنبعثة من الحركية الفعلية لمشروعنا، إذ الأسئلة الصحيحة - في نهاية المطاف - هي تلك التي تنبعث من رحم التفاعل العميق مع معطيات الممارسة العملية ، فالسؤال حول التنظيم والمشروع - مثلا - ليس الباعث من ورائه بالضرورة الرغبة في تغيير الصيغ الحالية للعمل أو التشكيك في مصداقيتها العملية، بل هو في العمق تعبير عن الجرأة في التفكير الاستشرافي الذي يسمح بان يجعل من ذاته التنظيمية المنتجة موضوع سؤال وتفكير؛ إنه بالفعل بحث عن الفعالية الإصلاحية. إننا واعون حينما نطرح الحاجة للسؤال الفكري استئنافا واستكشافا وإشراكا، بأن الغاية ليست هي أن نتحول إلى مؤسسة فكرية أو فضاء معرفي للتفكير المجرد عن حيوية الإصلاح وحرارة الفعل التاريخي المرتبط بالأسئلة الحقيقة للمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، أو التفكير التأملي البعيد عن حركة الواقع وتحولات العصر، بل نحن واعون بأن الطبيعة الإصلاحية لحركتنا تستلزم أن نظل إطارا إصلاحيا حاضنا للسؤال الذي يستنير بالهدي القرآني ويسترشد بالنهج النبوي ويستلهم الدور التاريخي للمصلحين عبر التاريخ، من أجل تجديد فهم الدين والعمل به،والإسهام في إصلاح أوضاع مجتمعاتنا وتنمية شروط النهضة فيها.