تتعدد الصور داخل الحافلات، وتتكرر الوجوه إلا من سائقها وجابيتها التي تجوب الحافلة المكتظة بالركاب ذهابا وإيابا، بزيها الأحمر أوالأزرق أو...، وحركاتها مُعَدة سلفا، تمد يدها لتحصيل ثمن التذكرة بتكرار نفس الحركة دون ملل، وتلقي بعينيها ـ التائهتين كفأرين ضلا الطريق إلى جحرهما ـ على المقاعد الشاغرة في الحافلة، ثم تجلس هنيهة لتلتقط أنفاسها المتسارعة، لكن ما تلبث أن تنهض من جديد لتحصيل ثمن التذاكر من الركاب الجدد. تستقبل الجابية مئات الأشخاص يوميا في الحافلة، وبالتالي مئات النماذج البشرية المختلفة، فهي تتعامل مع الرجل الرزين الهادئ الذي يتعاطف معها ويقدر عملها الشاق، ولا يتوانى في احترامها والابتسام في وجهها، وتتعامل مع المراهق الذي يرفض أداء واجب التذكرة تعنتا تارة، ورغبة في إثبات ذاته بأي وسيلة أحيانا أخرى، وفي حالة رفضها فهو لا يتورع عن تشنيف سمعها بالشتائم والسباب حتى ينسكب دمعها على خدها أو تثور غاضبة في وجه واقعها الصعب الذي دفع بها لتكون جابية في حافلة متهرئة، وتتعامل أيضا مع اللصوص والعاطلين، ورجال الأمن، والموظفين، نساء، رجال وأطفال..، باختلاف خلفياتهم التربوية وانتماءاتهم الاجتماعية. ومع كل هذا، فهي مطالبة بأن تكون رقيقة الطبع، وسهلة التجاوب مع الجميع..ولا أحد يعذرها إلا من رحم الله إن هي أخطأت في الحساب، أو تأففت أو غضبت، أو تألمت واشتكت من رائحة البنزين واكتظاظ المكان، فلو فعلت لاتهمها البعض بأنها جابية قليلة الأدب، ولا تحترم قواعد المهنة وضوابطها، ولكثر المصلحون، والمتدخلون داخل تلك الحافلة التي ليست إلا مجتمعا مصغرا. على متن الحافلة ما أقسى أن تفرض عليك الابتسامة مع الزبناء حتى لو كانت أحشاؤك تنطوي على الآلام، تقول فاطمة جابية بإحدى الحافلات بنظرة شاردة مبادرة بالحديث، الأيام تمر بنا، هكذا يوم يلي يوما وشهر يلي شهرا، تمضي السنوات وتدور عجلة الزمن ونحن رابضون في أمكنتنا نفس الراتب الشهري الذي تنقص قيمته لأدنى خطإ، نفس النظرة الاحتقارية التي يوليها المجتمع للجابية أو الطوابسية، وكأنها مهنة غير شريفة أو يريدونها كذلك. استرسلت فاطمة دون أن اسألها، وكأنها تريد إفراغ شحنة الصبر والشقاء لتستمر في عملها، هل رأيت الشاب ذي اللبسة السوداء الذي يحمل محفظة في يده فتخاليه إطارا في بنك، إنه لص ويعتبر هذه المحطة مكانا خاصا به، (محطة باب الرواح بالرباط)، حيث يضع شفرة بين أصابعه، ولديه مهارة عالية في السرقة، ويكفي أن يستهدف شخصا في حالة سهو ليقوم بمهمته دون يشعر به أحد، وحتى إذا كانت عيون باقي الركاب كلها ترمقه وهو شيء نادر فلا أحد يستطيع أن يتفوه بكلمة مخافة أن تصل تلك الشفرة لوجه أحدهم، نحن أيضا لا نستطيع قول شيء حيث نخاف على أرواحنا فهم يعرفون وقت انصرافنا وحضورنا. تحكي وتحكي، فعرضت عليها الراحة حين وصلت الحافلة إلى محطتها النهائية لنتحدث بعض الشيء عسى أن تفرغ بعضا من غيضها، لكن صادف حظها العاثر أن ورقة تنقصها، فما كان على المحاسب إلا أن نهرها مطالبا إياها بتأدية ثمن التذكرة الضائعة، فقالت بصوت مبحوح و عينين دامعتين كرهت اليوم الذي اخترت فيه هذه المهنة الصعبة، فكل عذاباتي اليومية لأجل أن يصير ابني إطارا ويريحني في آخرأيامي، إذا أثمر في كل ما أفعله لأجله، تم نظرت للسماء قائلة يا رب اعف عني من هذا الذل؟ دموع وهوان مسحت فاطمة دموعها بحركة سريعة واستمرت في حكيها، تشكل الحافلة قطعة مركزة من المجتمع المغربي، حيث يحضر التسول والشكايات، والخيانة، والتحرش، والجريمة..، أمور تتعدى الزبناء لتطالنا أيضا، ولم لا ونحن الجباة الفقراء الذين كتب عليهم أن يكسروا هدوء الليل في ساعة مبكرة على أصوات محركات هاته الحافلات التي تنخر الرداءة معظمها، لنبدأ مسيرة عذاب بالساعات حيث تتألم قلوبنا المليئة من شدة خطابات الشكوى وسرد قصص المعاناة التي يحكيها بعض الزبناء، سيما الخطوط التي تصل للمستشفيات. وللأسف مهنة الطوابسيات غير محترمة في الثقافة المغربية، والكل يريد أن يشعر بآدميته من خلال الدوس علينا، شباب، كهول، موظفين، متسولين..الكل يهزأ، وينتظر أن ننحني له، و الأسوأ ما نتعرض له أحيانا خلال الصباح الباكر حيث الكل نيام إلا بقايا السكارى والمتسكعين، وكم من جابية تعرضت للسرقة ولأنواع التحرش الذي يصل لحد الاغتصاب أحيانا، ومرات أخرى من بعض مستخدمي القطاع ذاتهم، وأخطر الحالات حين يكون رب العمل شرسا لا يتوارى عن التحرش بالمستخدمات اللواتي تعملن لديه. صمتت فاطمة لبعض الوقت وعيناها جاحظتان وكأنها ترى شيئا بعمق، وبتنهيدة أعمق استرسلت، لم أكمل الشهر في عملي هذا حتى تزوجت، لم أكن لأفكر في زوجي كشخص بل فكرت أولا في السترة كما تقول والدتي، وفي إبعاد كل العيون التي كنت أشعر أنها تلتهمني بنظراتها، زوجي يشتغل أيضا في نفس الشركة كسائق وفي كل حين نمنح المسؤول عن الموظفين بعض الهدايا ليتركني معه على نفس الحافلة، على الأقل لأنتقل وزوجي أثناء الليل وخلال الصباح الباكر. يوم وطني للجابيات وبالرغم من مرور ثماني سنين على عملي كجابية، لا تزال أجرتي هزيلة ولا تتعدى ألفي درهم، لكنها خير وبركة تردد فاطمة وتقبل يدها، فعلى الأقل لدي راتبي، أشتري به ما أريد لوحيدي الذي أتعب لأجله، وأستريح بمجرد أن يسعد بلعبة أوملابس جديدة، حيث أنسى مشاكل العمل التي لا تنتهي، مشادات ومضايقات، يومية مع الزبناء وبعض السائقين الذين تكون أمزجتهم معكرة بسبب تصرفات الركاب وبسبب روتين الطريق، وفراغ الجيب، لكن بنظرة من ابني الذي يبلغ سبع سنوات أتغلب على أحزاني بضحكة محت كل الأحزان التي كانت تبدو على محيى فاطمة. تصوري، تستدرك فاطمة، نحن نعمل لساعات طويلة دون راحة، لا نعرف شيئا اسمه العطلة أو العيد..، لكن مكافأتنا أهزل مما يستجديه متسول بسيط على الحافلة ذاتها، لا تعويضات، وبعض منا لا أوراق رسمية له، نعمل من أجل لقمة بسيطة، لكن حين نمرض فلن يقبل علينا رب العمل مهما كثرت سنوات العمل. ألا نستحق نحن الجابيات أن يكون لنا يوم يحتفل المغاربة فيه بشقائنا اليومي، ألا نستحق أن تتشكل لأجلنا جمعيات تهتم لنا، وتحمينا من جبروت بعض أرباب العمل، وتمحو صورة أن مهنة الجباية سيئة، فقد اخترنا لقمة الخبز الحلال عوضا عن الارتماء في دروب الدعارة والتسول، اخترنا مهنة شريفة بالرغم من صعوبات لياليها، ألا نستحق منكم بعض الاحترام أوالتقدير.